فصل
ثم قال أبو عبد الله الرازي في تأسيسه: الفصل الرابع في إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك.
وقد ذكر على ذلك ثمانية براهين مع أن بعضها مبني على ما تقدم من نفي أنه جسم، فإنه قرر أن ذلك يستلزم نفي أن يكون على العرش، وأكثرها غير مبني على ذلك.
وهذا الفصل يتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق السموات وأن الرسول لم يعرج به إليه وأنه لا يصعد إليه [ ص: 288 ] شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا ترفع الأبصار أو الرؤوس أو الأيدي إليه في الدعاء بل لا تتوجه القلوب إلى فوق قصدا للتوجه إليه أصلا لا في دعاء ولا عبادة ولا غير ذلك، ويتضمن أنه ليس فوق العالم رب ولا إله، وليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن ما فوق العرش وما تحت الأرض السابعة سواء في ذلك، فكما أنه ليس في جوف الأرض فليس فوق العرش بل منهم من يقول إنه في كل مكان أو في كل موجود إما بمعنى أن تدبيره فيهم إما بمعنى أن ذاته في كل مكان أو أن ذاته هي كل موجود، وأما ما فوق العرش فليس هناك شيء؛ لأنه هو ليس هناك عندهم وليس فوق العالم موجود آخر مخلوق حتى يقال إنه فيه بمعنى التدبير أو بذاته أو بمعنى أن وجوده وجوده؛ فهذه أقوال الجهمية متكلمهم [ ص: 289 ] ومتعبدهم، لكن ثم طائفة تقول هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر كذلك في المقالات عن الأشعري زهير الأثري وأبي معاذ التومني [ ص: 290 ] وإخوانهم، فقال: إنهم يقولون ، وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أنه يجيء يوم القيامة، كما قال : إن الله بكل مكان، وأنه مع ذلك مستو على عرشه وجاء ربك [الفجر 22] وهذا في نفاة الجسم يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إنه لا نهاية له، ومتكلمو الجهمية إلى النفي المطلق أقرب؛ إذ الكلام قد يصف الموجود بصفة المعدوم ويشبه ذلك.
وأما عبادهم فلهم قصد وإرادة فيمن يعبدونه، والقصد لا يتوجه إلى العدم المحض؛ فلهذا كثيرا ما يجعلونه [ ص: 291 ] هو في كل مكان أو يجعلونه هو الوجود كله، والعامة منهم إلى هذا أقرب؛ لأنه لا تخرج القلوب أن تعبد شيئا موجودا وبنو آدم قد أشركوا بالله فعبدوا ما شاء الله من المخلوقات، فإذا ذكر لهم ما يقتضي عبادة كل شيء كما فعلته الاتحادية لم ينفروا عن هذا نفورهم عن أن تعطل قلوبهم عن عبادة شيء من الأشياء بالكلية؛ فهؤلاء يشركون شركا ظاهرا، وأما أولئك فالجحود المحض أغلب على قلوبهم؛ ولهذا يوجد فيهم من الاستكبار عن العبادة وقسوة القلوب ما لا يوجد في الآخرين، وكل واحد من الاستكبار والإشراك ينافي الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
فإن الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له، فمن عبد الله وغيره، فقد أشرك به كما كان مشركو العرب وغيرهم ومن [ ص: 292 ] امتنع عن عبادة الله كفرعون ونحوه فهو جاحد وهو أكفر من هؤلاء، وإن كان مشركا حيث له آلهة يعبدها.
ولما كان كما قال الإسلام هو دين الله العام الذي اتفق عليه الأولون والآخرون من جميع عباد الله المؤمنين، نوح عليه السلام : فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين [يونس 72] وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : إذ، قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين [البقرة 131] .
وقال : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [آل عمران 67] .
وقال : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [الأنعام 161] .
وقال : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة 132] .
وقال يوسف عليه السلام : توفني مسلما وألحقني بالصالحين [يوسف 101]، كما قال : [ ص: 293 ] إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف 37-40] .
وقال موسى عليه السلام : يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [يونس 84] .
وقال : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [المائدة 44] وقالت بلقيس : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [النمل 44]، وقد قال تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن [النساء 125] .
وقال تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة 111-112] [ ص: 294 ] وهذا عام في الأولين والآخرين، كما قال سبحانه : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران 83-85] .
وقال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران 18-19] ثم قال : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد [آل عمران 19-20] وقوله : إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [آل عمران 19] فيه بيان أنهم اختلفوا [ ص: 295 ] في دين الله الذي هو الإسلام من بعد ما جاءهم العلم حملهم على الاختلاف البغي، وهذا كما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير [الشورى 13-15].