فصل
الرازي: واحتج مخالفوهم بالآية والخبر والمعقول، أما الآية فمن وجهين: الأول قوله تعالى في صفة المتشابهات: قال وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. والوقف ههنا لازم، وسيأتي دليله إن شاء الله تعالى.
والثاني الحروف المقطعة المذكورة في أوائل السور.
وأما الخبر: فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله» [ ص: 256 ]
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان، منها ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا: كالصلاة، والزكاة، والصيام.
فإن الصلاة تواضع وتضرع للخالق، والزكاة إحسان إلى المحتاجين، والصوم قهر النفس.
ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج، فإنا لا نعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الحكيم تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذا يحسن بالنوع الثاني، [ ص: 257 ] لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرفه بعقله من وجه المصلحة فيه، وأما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، فإنه لما لم يعرف فيه وجه المصلحة ألبتة، لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك كان في الأفعال، فلم لا يجوز أن الأمر كذلك في الأقوال، وهو أن القرآن الذي أنزله الله تعالى علينا، وأمرنا به وبتعظيمه وقراءته، ينقسم إلى قسمين، منه ما يعرف معناه [ ص: 258 ] ونحيط بفحواه، ومنه ما لا نعرف معناه ألبتة، ويكون المقصود من إنزاله والتكليف بقراءته وتعظيمه ظهور كمال العبودية والانقياد لأوامر الله تعالى، بل هاهنا فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع جزمه بأن المتكلم بذلك الكلام أحكم الحاكمين، فإنه يبقى قلبه ملتفتا إليه أبدا، ومتفكرا فيه أبدا، ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى، والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يقال: إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة له، فيتعبد الله تعالى بذلك تحصيلا لهذه المصلحة، قال: فهذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب، [ ص: 259 ] وبالله التوفيق.