الوجه الثاني والعشرون: أن منازعه يقول: قد وأن من قال إنه ليس فوق السموات رب يعبد ولا هناك إله يصلى له ويسجد، وإنما هناك العدم المحض، فإنه جاحد لرب العالمين مالك يوم الدين، فإن اعتقد أنه مقر به، وهذا يقتضي كما قلت: أنه ذو حيز ومقدار، وكلما كان ذا حيز ومقدار وهو لا يمكن الإشارة الحسية إليه ولا يمكن الإحساس به فإنه معدوم، كما اعترف به وكما [ ص: 578 ] هو معروف في الفطر، وهو أحقر من الجوهر الفرد بلا ريب. فثبت أن قولك يستلزم أن الباري معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد، وهذا مما اتفق علماء السلف وأئمة الدين أن قول ثبت بالفطرة الضرورية وبالضرورة الشرعية واتفاق كل عاقل سليم [ ص: 577 ] الفطرة من البرية أن رب العالمين فوق خلقه، الجهمية أنه ليس فوق العرش ولا داخل العالم ولا خارجه يتضمن أنه معدوم لا حقيقة له ولا وجود، وقد صرحوا بذلك في غير موضع، وكذلك هو في جميع الفطر السليمة.
وإن أردت أن تلزمه عدمه من غير بناء على المقدار، فيقال:
الوجه الثالث والعشرون: أنه إذا عرض على الفطر السليمة التي لم تتقلد مذهبا تتعصب له شيء لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس به ولا هو في شيء من الجهات الست؛ فإن الفطرة تقضي بأن هذا لا يكون موجودا إلا أن يكون معدوما، وهذا قبل أن يخطر بفكر الإنسان الحيز والمقدار نفيا وإثباتا، ثم بعد ذلك إذا علم أن الموجود أو أن هذا لا يكون إلا ذا حيز ومقدار كان ذلك لازما آخر يقرر مذهب المنازع لهذا المؤسس.