قلت: هذه الجملة متفق عليها في الجملة بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها، كما قال تعالى وتقدس: [ ص: 514 ] قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون [المؤمنون: 84-89] والأكثرون يقرؤون الأخرتين سيقولون لله كما اتفقوا على أن جواب الأول: سيقولون لله وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ، لأن معنى قوله: قل من رب السماوات السبع و من بيده ملكوت كل شيء أي لمن ذلك؟ فكان الجواب بقوله: سيقولون لله هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله، وذلك مبالغة في الملك؛ فإن الملكوت أبلغ من لفظ الملك، وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء، وفقر كل شيء إليه، فهو حق؛ لكنه يتضمن أكمل من ذلك، من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك، من المعاني التي تبين أن هؤلاء وما يثبتونه من غناه وافتقار ما سواه إليه يتناقضون فيها؛ فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيا، وأن يكون إليه شيء ما فقير؛ لكن ليس المقصود هنا كشف أسرار أقاويلهم كلهم، [ ص: 515 ] وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم، التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه، وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب. الفلاسفة لا يجعلونه ملكا حقا، وكيف يكون ملكا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء، ولا دفع شيء، ولا له تصرف بنفسه، ولا في غيره بوجه من الوجوه؛ بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه.
فيقال: إن كان المقصود أن الله يستحق أن يسمى ملكا حقا، لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكا حقا، ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم، وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية، وتنزيهه عن النقائص، لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد؛ إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك، أو أن ذلك يقتضي فقرا إلى الغير، وقد تقدم الكلام على ذلك، وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره، فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه؛ بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرا؛ بل معدوما؛ بل ممتنعا لذاته، كما هو مقرر في موضعه.