وأما رواية للأحاديث المتقدمة فالصواب أنها ثابتة، كما عليه أئمة الحديث؛ ولذلك احتج بها الترمذي وقال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أحمد «رأيت ربي» فأنكر على من رد موجبها. وقد ثبت حديث عكرمة عن وهو أسدها، وذكر أن العلماء تلقته بالقبول، وقال: حدث به؛ فقد حدث به العلماء. ابن عباس،
فأما قوله في رواية «يضطرب في إسناده، وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه» فهذا كلام صحيح فإنهم اضطربوا في إسناده بلا ريب، لكن لم يقل: إن هذا يوجب ضعف متنه، ولا قال: إن متنه غير ثابت، بل مثل هذا الاضطراب يوجد في أحاديث كثيرة، وهي ثابتة. الأثرم:
وهذه الطرق مع ما فيها من الاضطراب لمن يتدبر الحديث ويحسن معرفته يدل دلالة واضحة على أن الحديث محفوظ [ ص: 326 ] صحيح الأصل، لا ريب في ذلك، بل قد يوجب له القطع بذلك، كما نبهنا عليه أولا، فإنه قد ثبت أنه حدث به وأخبره عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، يزيد بن يزيد وأبو قلابة عن والأوزاعي خالد بن اللجلاج، وكل هؤلاء من الثقات المشاهير، وهذا يثبت رواية خالد له، لكن أحدهم قال عن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن ابن عباس: ابن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي ثبوت إحدى الروايتين دون الأخرى؛ إذ لم يختلفا في متنه، وإنما اختلفا في صفة الإسناد، فقد يقال: الثانية أصح؛ لأن ابن عائش ليس ممن اتفق على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن إحدى الروايتين فيها زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة.
وقد يقال: الأولى أصح؛ لأن رواتها عن خالد أكثر، وقد [ ص: 327 ] رواه كذلك وغيره كما سيأتي إن شاء الله. الأوزاعي
والأشبه أن الاضطراب في هذه الرواية وقع من خالد نفسه، وأنه كان لا يذكر في أكثر الروايات إلا ابن عائش؛ ولهذا لم يذكر أبو قلابة عنه إلا ما يشتبه بابن عائش، وبالجملة فأي الروايتين كانت هي المحفوظة صح الحديث؛ إذ تعارضهما إما أن يوجب صحة إحداهما أو يوجب الجمع بينهما، وعلى كل تقدير فالحديث محفوظ، فأما طرحهما جميعا فإنما يكون إذا تعارض متنان متناقضان.
وكذلك قول أبي قلابة عن إما أن يكون محفوظا أو مصحفا، وعلى التقديرين لا يقدح في متن الحديث، بل يؤيده ويثبته، سواء كان محفوظا أو مصحفا، ورواية ابن عباس عن يحيى بن أبي كثير زيد بن سلام عن ابن عائش تخالف رواية خالد بن اللجلاج عنه، بل توافقه وتعضده؛ لأن رواية خالد تدل على أنه كان لا يستوفي إسناده، بل تارة يرسله وتارة يذكر الصاحب، فهذه الرواية ذكرت ما ذكروه، واستوفت الإسناد والمتن.
وأما ما ذكره [ ص: 328 ] من كون ابن خزيمة يحيى مدلسا لم يذكر السماع فهذا لا يضر هنا؛ لأن غاية ما فيه أن يكون أخذه من كتاب زيد بن سلام، كما حكي عنه أنه كان يحدث من كتاب أبي سلام إما لمعرفته بخطه وإما لأن الذي أعطاه قال له: هذا خطه، وهذا مما يزيد الحديث قوة؛ حيث كان مكتوبا؛ ولهذا كان إسناده ومتنه تاما في هذه الطريق بحمله دون الأخرى، والاحتجاج بالكتاب في مثل هذا جائز كالاحتجاج بصحيفة عمرو بن حزم، وصحيفة التي رواها عبد الله بن عمرو كما كان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 329 ] يكتب كتبه إلى النواحي فتقوم الحجة بذلك، وإن لم يكن هذا حجة فمن المعلوم أن هذا الطريق يبين أن الحديث عن عمرو بن شعيب، ابن عائش؛ إذ مثل هذه الطريق إذا ضمت إلى طريق خالد بن اللجلاج كان أقل أحوال الحديث أن يكون حسنا؛ إذ روي من طريقين مختلفين ليس فيهما متهم بالكذب، بل هذا يوجب العلم عند كثير من الناس؛ ولهذا كان الأئمة يكتبون الشواهد والاعتبارات ما لا يحتج به منفردا، والذي ذكر من أنه لم يثبت طريق معين من هذه الطرق هذا فيه نزاع بين أهل الحديث، لكن إذا ضمت بعضها إلى بعض صدق بعضها بعضا، فهذا مما لا يتنازعون فيه. ابن خزيمة