[ ص: 202 ] فصل
وقد ذكر في ( نهايته ) على حجة أخرى فنذكرها، وإن كانت موادها داخلة فيما ذكرناه، ليكمل ما ذكره في ذلك، فقال: " المسألة الثانية في أنه ليس في الجهة- قال: وقبل الخوض في الاستدلال، لا بد من البحث عما لا يكون جسما: هل يعقل حصوله في الجهة، أم لا؟. فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة". قال: " وزعم من أثبت الجهة ونفى الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل الكون القائم بأعلى الجدار، والكون القائم بأسفله، [ ص: 203 ] ولا يضرنا في ذلك ما يقال: الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها، لأنا نقول: الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية، وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام، فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات على سبيل التبعية فقد سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات، ومتى ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسما نفي اختصاصه بالجهة والحيز، وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الجهة والحيز". نفي الجهة
يقال: هذا الذي ذكره يمكن الجواب عنه بأن يقال: لا يحصل في الجهة إلا الحيز أو ما قام به، أو يقال: لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال إلا الجسم أو لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال أو التبعية إلا الجسم أو ما قام به، وأي هذه [ ص: 204 ] العبارات قيل لم يكن ما ذكره دليلا على إمكان أن يكون في الجهة قائم بنفسه غير الجسم.
ونحن نذكر حجته، قال: " فنقول: الباري تعالى لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد، أو لا يكون إلا في حيز واحد.
والأول باطل، لأن الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الحيز الثاني أو غيره، والأول باطل وإلا لكان الشيء الواحد حاصلا دفعة واحدة في حيزين وهو محال، ولو عقل ذلك فليعقل مثله في الجسم حتى يحصل الجسم الواحد دفعة واحدة في حيزين، وأنه محال.
والثاني أيضا محال: أما أولا فلأنه يلزم منه انقسام ذاته وهو محال على ما مر. وأما ثانيا فلأن اختصاص كل جزء منه بحيزه، إما أن يكون واجبا، أو جائزا، والقسمان باطلان على ما سيأتي.
وأما إن قيل بأنه في حيز واحد فهو باطل لوجهين: الأول بأنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه. والثاني فلأن حصوله في ذلك الحيز إما أن يكون واجبا، أو غير واجب. والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز [ ص: 205 ] لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر الأحياز، ولو كان كذلك لكانت الأحياز أمورا وجودية، لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضا، ولو كانت الأحياز أمورا وجودية لكان إما يمكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن، فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون الباري الحال فيه منقسما أو لا يكون منقسما، فيكون ذلك الشيء مختصا بجهة دون جهة، فيكون للحيز حيز آخر، ويلزم التسلسل، وإن لم يمكن الإشارة الحسية إلى الحيز الذي حصل الباري تعالى فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري تعالى لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه، فإذا لا يكون الباري في الجهة وهو المطلوب. وأما إن لم يكن حصول الباري واجبا فاختصاصه بها لا بد وأن يكون لفاعل مختار، سواء إن كان بواسطة معنى أو لا بواسطة معنى، وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث فاختصاص الباري بالحيز محدث. فهو إذا في الأزل ما كان حاصلا في الحيز، والشيء الذي لا يكون كذلك استحال أن يصير محتاجا إلى الحيز. فثبت أن الباري يمتنع [ ص: 206 ] أن يكون في الأحياز والجهات، قال: " ويمكن أن يعتمد في هذه المسألة أيضا على أنه لو كان في الجهة لكان منقسما، لأن الجانب الذي منه يلينا غير الجانب الذي لا يلينا، وذلك يوجب انقسام ذاته، لكنا بينا أن الانقسام عليه تعالى محال فحصوله في الجهة والحيز أيضا محال قال: " وهذا الكلام إنما يدفع القول بنفي الجزء الذي لا يتجزأ" ولم يذكر في ( نهايته ) على نفي الجهة إلا هذا الكلام، وقد تقدم ما ذكره على نفي الجسم.