وقد ذكر ذلك «أبو بكر بن فورك» في كتابه الذي سماه «مقالات الشيخ الأستاذ وقد قال في كتابه بعد الخطبة التي مضمونها حمد الله على أن قام من أهل ولايته، من يبين الحق بدلائله، ويدحض شبه الباطل، ثم قال: «ثم من أجل الله قدره» يعني: الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد» أبا عبد الله العصمي، وأثنى عليه ثناء كثيرا «أحب -لما هو عليه من إظهار كلمة المحقين، ونشر أصول دين المتدينين، بالتمسك بالسنة الظاهرة، والجماعة القاهرة، يدا [ ص: 70 ] ولسانا، وحجة وبيانا- أن أجمع له، متفرق مقالات شيخ أهل الدين، وإمام المحقين، المستنصر للحق وأهله، والمبين لحجج الله الذاب عن دين الله، بما عرفه الله سبحانه من معالم طرق دينه الحق وصراطه المستقيم، السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع، الموفق لاتباع الحق، والمؤيد بنصرة الهدى والرشد، من فتح الله سبحانه وتعالى بفضله لأهل السنة والجماعة، بما وفقه له من البيان لطرق الإيضاح عن حجج المحقين في حقهم، واستنصروا به، وأباح لهم بما سدده فيه من مرسومه في كتبه، وجدده في تصانيفه، الكشف عن السبيل التي منها توصل إلى معرفة طرق التفصيل، ويهتدي بها إلى مقام الدلائل، بالحجج التي بها يدفع وساوس المبتدعين، وتهاويس الضالين، عن طريق الحق والدين المبين، فصار بيانه نورا وسيفا لأهل السنة، وخسارا وغيظا لأهل البدعة، عظمت منة الله على أهل السنة والحق بمكانه، وجلت نعمه لديهم بما سربلهم من تبيانه، وهو «أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان» رضي الله عنه وأثابه على عظيم ما أنعم عليه، وبه عليهم عود فضل منه، على بدء فضل، إنه القريب المجيب، وكذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا «أبي الحسن علي بن إسماعيل [ ص: 71 ] الأشعري» رضي الله عنه للتقريب على من يريد الوقوف على جملة مذاهبه، وأصوله وقواعده ومبانيه، وما رتب عليه كلامه مع المخالفين، من صفوف المبتدعة وفرق الضلالة، وتسهيلا على طالبه وتيسيرا له، ليقع له الغنية عن طلبه في متفرقات كتبه، ما يعز وجوده منها وما يشتهر ويكثر، ولم أخلط بما جمعته في ذلك مقالات غيره، من أصحابنا المتقدمين، ومشايخنا المتأخرين، طلبا لإيراد مقالاته فقط، فإنه رضي الله عنه لكثرة مصنفاته وتوسعه في كلامه، وانبساطه في كل باب من أبواب الخلاف مع المخالفين، ومصادفة أيامه كثرة أباطيل الضالين، وشبه المبتدعين، ونصرته في الرد على كل فريق بغاية البيان، وبلوغ الإمكان، كثرت مقالاته واتسعت» قال: «ولما كان الشيخ الأول، والإمام السابق «أبو محمد عبد الله بن سعيد» رضي الله عنه، الممهد لهذه القواعد، المؤسس لهذه الأصول والمقاصد، بحسن بيانه، بين حجج الحق وشبه الباطل، المنبه على طرق الكلام فيه، والدال على موضع الوصل والفصل، والجمع والفرق، الفاتق لرتق الأباطيل، [ ص: 72 ] والكاشف عن لبس ما حرفوا وموهوا، فهدى الله بذلك وأرشد، ورأى حذاق المخالفين من المبتدعة بيانه لهم واضحا، وكلامه ظاهرا لافحا، فجدوا في طلب كتبه، وتصانيفه فحرفوها، وغسلوها لئلا يبين عوار بدعهم، وينكشف قبيح بواطن شبههم، فتتبعوها وبذلوا فيها الأموال، حتى اجتهدوا في التقليل منها، فعزت وقلت، ولكن ما حفظ الله من ذلك لأهل الحق، فيه البيان الكاشف، والنور الساطع، فاكتفوا بما وجدوا في التنبيه عما فقدوا، وتتبعت عند ذلك فيما وجدت من كتبه، وما وجدت المشايخ حكوا عنه، وما انتشر من مذاهبه، فجمعت جميع ذلك ورتبته على الأبواب، ونسبت كل ذلك إلى كتبه رحمه الله، وإلى كتب أصحابنا ومشايخنا رضي الله عنهم، وأجبت في بعض الفروع المتفرعة على أصول المذهب بعده، على مجرى أصوله وقواعده المشهورة، واستوفيت في بعض الفصول كلامه فيه، فأومأت إلى نكت في الباب، تنبيها على طرقه في الاستدلال، والاحتجاج للحق، ليجمع إلى تعريف مذاهبه، تعريف طرقه في بعض المسائل، في اللجاج للحق، [ ص: 73 ] والرد على المبطلين، خاصة في مسألة القرآن، فإنه أورد فيها كلاما ظاهرا جليا، وبدأت قبل كل شيء بما حكاه شيخنا رضي الله عنه، من جمل مذاهبه في الكتاب الذي جمع فيه مقالات أهل القبلة، وكان غرضي في ذلك أن يعلم أن طريقة مشايخنا رضي الله عنهم مقنعة في إبانة حجج دين الله الحق، وإبانة أباطيل المبتدعين، والكشف عن شبه الزائغين عن الحق، وأن قواعد دينهم وطرائقهم متساعدة غير مختلفة، وأن ليس بينهم خلاف، يبرأ بعضهم من بعض لأجله، أو يكفر أو يفسق بعضهم بعضا، وأكثر ذلك إنما يرجع إلى تقييد مطلق، لرفع إبهام ولبس، أو إطلاق مقيد كل شبهة، ورفع تهمة، وأكثرها يؤول إلى خلاف في عبارة، وما ضر نفسه في المعنى والتحقيق، يؤول فيه إلى طريق صاحبه في التفصيل، ولم أشتغل في هذا الكتاب بإظهار وجه الجمع بين المقالات في المعنى، وإبانة أنها ترجع إلى اختلاف عبارات، وإطلاق بعضهم لعبارة منعها الآخرون، من غير أن يكون فيها نقض أصل، أو حل عقد، يوجب التضليل والبراءة، وذلك أعظم شاهد، على أنهم هم المعصومون، وأنهم هم الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال ظاهرة بالحق، [ ص: 74 ] لا يضرهم من ناوأهم، فإن الكتاب يطول بذلك، وسنفرد في آخر هذا الكتاب فصلا نفصل فيه; وجوه الخلاف بينها، ونبين وجه الاتفاق في القواعد والأصول، وأن الخلاف فيما اختلفوا فيه يجري المجرى الذي ذكرناه، وفيما أحكيه الآن قبل كل شيء، من كلام شيخنا «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» رحمه الله في كتاب مقالات أهل القبلة ما يدل على ما أقول، وأن مذهب الشيخ الإمام الأوحد «أبي الحسن» «أبي محمد عبد الله بن سعيد» رضي الله عنه، هي مذاهب مشايخ أهل الحديث، وأئمتهم في الأصول والفروع المتعلقة بها، وأنه كان مؤيدا من بين الجماعة، بمعونة خاصة من الله تعالى، في إبانة آيات الله وحججه، وإظهار دليله وتباينه، فكان بين أيديهم مرتقى لهم، ينفي عن أهل السنة والجماعة تحريف المبتدعة، ويكشف عن تبديل الفرق المبطلة، ويوضح عن حكم التمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة الهوى والبدعة، وأن شيخنا «علي بن إسماعيل الأشعري» إنما بنى على ما أسسه، ورتب الكلام على ما هذبه، وفرع على ما أصله، غير ناقض منه أصلا، [ ص: 75 ] ولا حال منه عقدا، فوفقه الله بفضله لنشر ذلك وبسطه، وتكثيره وترتيبه، يقرب المستبعد، ويوضح المشكل، ويحصر المنتشر، حتى بلغه الله ما أراد، وتم توفيقه لما قصده، فرحمة الله عليهم أجمعين، وجعلنا بآثارهم مقتدين، ولما سنوا متبعين، وبما بنوا وقاسوا وأرشدوا إليه عاملين، وفيه مستبصرين، إنه ولي ذلك».
ثم قال: «الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا رضي الله عنه في كتاب «المقالات» من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم، وما أبان في آخره; أنه يقول بجميع ذلك، وأن الشيخ «أبو الحسن» «أبا محمد عبد الله بن سعيد» وأصحابه بذلك يقولون، وبأكثر منه، حتى يعلم أن الأصل في العقود واحد، تصديقا لما قلنا، وتأييدا لما إليه أومأنا، وشاهدا لما ذكرنا من نص قوله وصريح بيانه، قال شيخنا في كتاب «المقالات» بعد ذكره مقالات «أبو الحسن» الإمامية [ ص: 76 ] والخوارج، والمعتزلة والنجارية، في جليل الكلام، قال: «هذا حكاية قول أصحاب الحديث وأهل السنة، قال اعلموا أن [ ص: 77 ] إلى قوله: «ويجتنبون قول الزور والمعصية والفخر والكبر، والإزراء على الناس والعجب، ويرون مجانبة من يدعو إلى بدعة، والتشاغل في قراءة القرآن، وكتابة الآثار والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، ويرون اجتناب الغيبة والنميمة والسعاية، ويتفقدون المآكل والمشارب، ويجتنبون المحرمات والشهوات» ثم قال شيخنا جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله عز وجل» رحمه الله عند انتهاء حكايته ذلك عنهم: «أبو الحسن»
«وهذه جملة ما يؤمنون به ويستعملونه» قال بعد ذلك: [ ص: 78 ] «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نميل ونذهب وبالله توفيقنا» قال: «فحقق قواعد ذلك من ألفاظه رحمة الله عليه، أنه معتقد لهذه الأصول، التي هي أصول أهل الحديث وأساس توحيدهم، ومهاد دينهم، وأنه إنما سلك بما صنف إظهار حجج الله تعالى في دينه الذي وصفه وأبان خطأ المبتدعين، وإبطال أباطيلهم، ليعرف قوة الحق والسنة، وضعف الباطل والبدعة، لا أنه ابتدع من عند نفسه مقالة، لم يسبقه إليها أئمة الحديث من أهل السنة والإجماع، وإنما أطلق وقيد اللفظ في مواضع، لرفع إبهام، أو لإظهار قوة في حق، ولإبانة حجة، وكشف شبهة، وكذلك قصد الشيخ «أبي محمد» رضي الله عنه، وقد كان أوحد في معرفة الحديث، والعلم بالرجال، وطرق الحديث، وهو في شدة تمسكه بذلك، يرى أن متشابه الأحاديث لفظا في التوحيد، كمتشابه آي القرآن في مثل ذلك، وأنه يحمل على الوجه الصحيح، الموافق لحكم الكتاب والسنة، ولم يكن غرضهم إلا الإبانة، عن حجج الله تعالى، وإظهار وجوه الدلالات منها على الحق، وكشف تأسيس [ ص: 79 ] المبتدعين المبطلين، المدعين على أهل السنة الباطل والبهتان».
ثم قال «فصل، ثم قال شيخنا «أبو الحسن» -رحمه الله- في «المقالات» بعد حكايته جملة ما عليه أصحاب الحديث، على الألفاظ التي ذكرناها، حاكيا عن ابن فورك: -رحمه الله تعالى- بالألفاظ التي نذكرها الآن، فقال -رحمه الله-: «وأما «عبد الله بن سعيد» -رحمه الله- وأصحابه -رضي الله عنهم- فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرنا عن أهل السنة، ويثبتون أن الله عز وجل لم يزل متكلما جوادا» وأعاد عند ذلك بعض ما جرت حكايته جملة، تحقيقا وتأكيدا، فقال: «وهم يقولون -يعني: عبد الله بن كلاب وأصحابه-: إن لله -عز اسمه- علما وقدرة، وحياة وسمعا، وبصرا وعظمة، وجلالا وكبرياء، وكلاما وإرادة، صفات لله تعالى لم يزل بها موصوفا ولا يزال بها موصوفا، عبد الله بن كلاب ولا يقال: هي غيره كما قالت الجهمية، ولا يقولون: العلم هو القدرة، ولا يقولون: إنه غير القدرة، [ ص: 80 ] ويزعمون أن الصفات قائمة بالله عز وجل، وأن الله تعالى لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا، وساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا، وكذلك قولهم في الولاية والعداوة والبغض والمحبة، وكان يقول في القدرة كما حكيناه عن أهل السنة والحديث، وكذلك قوله في أهل الكبائر، وكذلك قوله في رؤية الله تعالى بالأبصار، وكان يقول: إن الله لم يزل، ولا زمان ولا مكان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه، [ ص: 81 ] وهو مستو على عرشه كما قال عز وجل، وأنه فوق كل شيء، لا بحد ولا مماسة، أو مفارقة بعزلة وتحيز». ويقولون: أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال: هي هو كما قال بعض المعتزلة،
ثم قال «فصل، وهذا آخر ما حكاه شيخنا «أبو بكر بن فورك»: -رحمه الله- من مقالات أصحاب الحديث، ومقالة الشيخ «أبو الحسن» «أبي محمد عبد الله بن سعيد» ومقالات أصحابه، وقال: إنه بجميع ذلك يقول وإليه يذهب، وقال في الجملة: إن أصحاب عبد الله بن كلاب بأكثر من ذلك يقولون، فكشف جملة ما حكيناه، أن الأمر على ما رتبناه عند مشايخنا، وأن بعضهم يتولى بعضا، وأن ليس بينهم خلاف، يقتضي عند واحد منهم التكفير والتضليل، وأنهم يعتقدون بأصل واحد، مهتدون بطريقة واحدة، هي ما صححه كتاب الله، وشهدت له سنة رسول الله، وعمل به السلف الصالح رضي الله عنهم، وأنهم لم يبتدعوا مقالة، ولا أحدثوا مذهبا، لا يترتب على أصل من هذه الأصول، وهذه الجملة مفيدة في هذا الباب، التي يذكر فيها على التفصيل مسائل الخلاف، ويبين مراتبها، ويذكر ترتيب الكلام فيها، وأنها في الحقيقة، كما أومأنا إليه، في أنه [ ص: 82 ] ليس بشيء من ذلك خلاف ينقض أصلا ثابتا، ويرفع عقدا واجبا، ويوجب التبري والتضليل، وكيف يقع بينهم خلاف في ذلك، مع اتفاقهم على أنهم ينصرون العلم الظاهر، وما عليه الألسنة مطبقة، والكلمة عليه مجمعة، وإنما تفردت شرذمة من كل فرقة بمقالة، ابتدعوها نصرة لباطلهم، وتمسكا بما أداهم إليه هواهم، واقتضى لهم طلب الدنيا، وإيثارا لعقد رياسة على طغام مثلهم، ليظهر لخلافهم مباينة، فيذكر بخذلان من الله وحرمان».