فإن كان كذلك فالمتناظران في هذه المسألة يقول النافي فيها للمثبت: كون ما نفيته من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا كذا ولا كذا يستلزم عدمه، إنما هو من حكم الوهم والخيال، وأما كون وجوده فوق العرش يستلزم جواز الانحلال عليه، فمعلوم بالقياس العقلي البرهاني. والمثبت [ ص: 105 ] يقول: أما لزوم ما ذكرته للعدم فمعلوم بالفطرة الضرورية العقلية، وأما لزوم ما ذكرته أنا للانحلال فإنما هو شبهات مركبة من ألفاظ مشتركة، وحينئذ فإن تحاكما إلى فطر العالم السليمة قضت للمثبت على النافي؛ لأن إقرار الفطر بما يقول المثبت معلوم، وإقرارها بما يقوله النافي غير معلوم. وإن تحاكما إلى المقاييس العقلية، فيقال: قول هذا الرازي وأمثاله المتقدم في مقدمته: " إن الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون، فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى، ونهجا آخر، وعقلا آخر، بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات". إما أن يكون هذا الكلام حقا، وإما أن يكون باطلا، فإن كان حقا بطلت هذه الحجة وأمثالها مما بناه على الجوهر الفرد نفيا وإثباتا، وعلى كون الأجسام توصف [ ص: 106 ] بالاجتماع والافتراق، وأن الجواهر والأجسام متماثلة أو مختلفة، لأن هذه الأمور كلها جسمانيات. فالعقل الذي به ينظر في هذه الأمور لا يجوز أن ينظر به في الإلهيات. وهذا المؤسس وأمثاله من هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة إنما يتكلمون في التجسيم نفيا وإثباتا بالنظر الذي نظروا به في الجسمانيات المخلوقة، فيكون كلامهم كله في ذلك باطلا. ولهذا اعترف أساطين الفلاسفة أن كلامهم لا يفيد في الإلهيات العلم واليقين، وإنما ينظر فيها بالأولى والأحرى والأخلق وإن كان هذا الكلام باطلا لم يصح أن يبطل به ما استقر في الفطر استقرارا ضروريا من أن وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه. رب العالمين فوق العالم،
وهذا الكلام في غاية الإنصاف، فإن هؤلاء القوم يريدون أن [ ص: 107 ] يبطلوا ما استقر في الفطر بما لا يصح إلا بما استقر في الفطر وبما هو دونه. فإن كان ما استقر حقا لم يكن لهم دفعه، وإن كان باطلا لم يكن لهم الاحتجاج به على إبطال ما استقر في الفطر، فإن هذا يكون قدحا في الأصل بإثبات الفرع، والقدح في الأصل قدح في الفرع، وهذه عادة القوم المخالفين للفطرة والشرعة، ولهذا كلامهم كله كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور