وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية، [ ص: 14 ] وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى "بجمل الكلام"، وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول [ ص: 15 ] الدين عن "سؤال الحكمة" بجواب خير من جواب هذين. كما أن هؤلاء أيضا قالوا في سبب الحوادث خيرا من قول هذين، وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعا وقالوا: العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده، وذلك أن كما أنه يستحسن طلب المحامد ممن عدمها، ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق، فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم، فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياه، وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين، قال الله تعالى: الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه، واستدعاء التعظيم ممن هو أهله، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [القصص: 70 ].
قالوا: والدليل على أن وجه أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه، وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل، وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في [ ص: 16 ] المنافع: هل هي فاضلة في أنفسها أم لا؟ وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها، وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل. حكمة الله في خلق هذا العالم
قالوا: وقد قال الله جل جلاله فيما وصف أهل الجنة: له الحمد في الأولى والآخرة [القصص: 70 ] وقال: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [يونس: 10 ] وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر ما يحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل، وقال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56 ] يعني ليعبده منهم البعض، فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضا عن جملة ما خلق ممن عبده وممن لم يعبده؛ وذلك أن من لم يعبد صار سببا لعبادة من عبد، ولذلك صح أن تكون عبادة من عبده غرضا من كلية هذا التدبير.
قالوا: وفي تكليف من علم أنه لا يطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبته؛ بل [ ص: 17 ] أجرى تكليفه ذلك إلى غرض صحيح؛ ولا يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين ما يعود إلى حسن حال يخصه وما ينتفع به في عاقبة أمره؛ بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمرا هو صحيح في الحكمة، كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إياه إلى منفعة تخصه في نفسه، وإنما خلقه لغرض آخر، وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربا من تدبيره، واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به، ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك، وهو إنما هلك بسوء اختياره، فكان تكليفه حسنا إذ أن أمره له بالإيمان والطاعة، والشيء الذي كلف فعله حسن؛ لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع، والذي عرض له أيضا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة، فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته، إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره، وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه، ولولا ذلك لم يكن ليكلفه.
قلت: وليس المقصود هنا بيان ما يجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته، وما يستحقه من الصفات والأفعال؛ إذ لكل مقام مقال. [ ص: 18 ]