والمقصود هنا أنه لا بد من الاعتراف بوجود قديم واجب. فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلا من الأمور الممكنة في الوجود، وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبا من المذاهب؛ فلا يقول ممتنع لأنه يستلزم تغيره، ويفتقر إلى سبب حادث؛ فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا. حدوث العالم عن واجب الوجود
وأما إذا قيل بأن هنا موجودا قديما واجبا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ما سوى [ ص: 46 ] الموجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه، فثبت بهذا أن في الوجود شيئين: (أحدهما ) موجود واجب الوجود بنفسه. و(الثاني ) موجود لا يجب وجوده، بل يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى. فهذا الموجود إذا وجد لم يمكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه، بل هو واجب الوجود بغيره. وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها: هل هي واجبة بنفسها أم لا؟ أما التي يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشك في أنها ليست بواجبة بنفسها بل بغيرها ما دامت موجودة وهي [ليست ] واجبة العدم إذا عدمت أيضا؛ وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم: لكن ليس [لها ] من ذاتها إلا العدم؛ وفرق بين أن تكون معدومة وعدمها من ذاتها، وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها. فإن هذه صفة الممتنع؛ إذ العدم ليس بشيء. وإذا ثبت أن في الموجودات ما هو ممكن وجائز حصل المقصود؛ فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لا بد له من موجب فاعل، ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى. فتخصيصه [ ص: 47 ] بصفة وقدر وزمان ومكان لا بد له من مخصص بإرادته ومشيئته، وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر والعلم في هذا المقام.
وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى: وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب كأبي الحسن الأشعري -رحمه [ ص: 48 ] الله- وغيرهم: أحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، ونحوهم ممن يوافقهم على هذا، وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقا، مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون، فيثبتون وجمهور الفقهاء يقولون ذلك، ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف من [ ص: 49 ] الفقهاء: كأكثر أصحاب الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من "مسائل الخلق، والأمر" وقد ينقلونه عنه، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وكأبي نصر [ ص: 50 ] السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام.
[ ص: 51 ] والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون: إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا له لا لعلة وغرض، ولا لداع وباعث وخاطر يعتريه؛ لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار، وذلك مستحيل في صفته؛ ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية، وقول [ ص: 52 ] كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة، وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر.