وذلك يظهر بالوجه التاسع: وهو أن هذه المعاني التي يعلم [ ص: 491 ] القلب أن أحدها ليس هو الآخر أمر لابد منه كما قد علم على كل تقدير، ونفي هذه نفي لكل موجود، وهو غاية السفسطة ونهايتها، وذلك يجمع كل كفر وضلال ويخالف كل حس وعقل، فهذا التميز إن أوجب أن تكون الحقيقة في نفسها فيها نوع من التميز لم يكن هذا منافيا لما هو الواجب والواقع من الوحدانية؛ فإن ذلك إذا لم ينف أن يكون كثير من المخلوقات واحدا فأن لا ينفي ذلك في الخالق أولى وأحرى مع أن أحديته لها من الخصائص ما لا يجوز مثله لشيء من المخلوقات، فإنه لا مثل له في شيء من الأشياء، وأما غيره فله الأمثال، قال الله تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات 49]، قال: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. وإن قيل كما يقوله بعض الناس: إن هذا الامتياز [ ص: 492 ] وجعلوا هذا مثل الاتحاد الذي في المعاني الكلية؛ فإنه كما أن الذهن يدرك إنسانية واحدة وجسما واحدا كليا عاما أو مطلقا يطابق الأفراد الموجودة في الخارج، مع أنه ليس في الخارج شيء إلا موجود بعينه لا يوجد فيها ما هو كلي عام، ولكن لما بين الحقائق من التشابه والتماثل يوجد في هذا نظير ما يوجد في هذا؛ فهو باعتبار النوع لا باعتبار العين، بل هو نظيره باعتبار العين. فإذا كان هذا التشبيه والتمثيل الموجود في الخارج أوجب للذهن إدراك معنى عام كلي يجمع الأمرين، وإن لم يكن في الخارج عاما كليا، فكذلك ما يوجد في العين الواحدة مما يظن أنه أجزاء كم وكيف قد يقال للذهن هو الذي يفرق تلك ويميز بعضها عن بعض وإلا فهي في [ ص: 493 ] نفسها واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ولا تركيب، فالذهن هو الذي يأخذ الشيء الواحد فيفصله ويركبه بعد التفصيل، كما أنه هو الذي يأخذ الشيئين فيمثل أحدهما بالآخر ويجعلهما واحدا بعد التمثيل. والتعدد الذهني لا يوجب أن يكون كذلك في الخارج،