وأما إن قلنا: إن فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا تصير هذه المقدمة يقينية وأيضا فكما أنا لا نعقل مرئيا في الشاهد إلا إذا كان مقابلا أو في حكم المقابل للرائي، فكذلك لا نعقل مرئيا إلا إذا كان صغيرا أو كبيرا أو ممتدا في الجهات أو مؤتلفا من الأجزاء، وهم يقولون: إنه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز، فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب، فلم لا يجوز أيضا أن يقال: إن المرئي في الشاهد- وإن وجب كونه مقابلا للرائي إلا أن المرئي في الغائب- لا يجوز أن يكون كذلك". قولنا: كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية، بل هي مقدمة استدلالية.
[ ص: 400 ] والكلام على ما ذكره من وجوه:
أحدها أن ما ذكره عن المعتزلة والكرامية ليس هو قولهم فقط، بل قول عامة طوائف بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين، وهو قول جماهير مثبتي الصفات ونفاتها، ولا يعرف القول بإثبات الرؤية مع نفي كون الله تعالى فوق العالم إلا عن هذه الشرذمة، وهم بعض أتباع ومن وافقهم، وليس ذلك قول أئمتهم كما يقول هؤلاء، وإن كانوا هم وغيرهم يقولون: إن في كلام أئمتهم تناقضا أو اختلافا فقد قدمنا أن تناقض من كان إلى الإثبات أقرب هو أقل من تناقض من كان إلى النفي أقرب، وقد قدمنا أن العلم بأنه فوق العالم أعظم من العلم بأنه يرى، فعلم ذلك بالعقل أعظم في الطريقة البديهية والقياسية، وعلم ذلك بالسمع أعظم لما في الكتاب والسنة من الدلالات الكثيرة التي لا يحصيها إلا الله تعالى، على أن الله فوق. الأشعري
ولهذا تجد هؤلاء الذين يثبتون الرؤية دون العلو عند تحقيق الأمر منافقين لأهل السنة والإثبات، يفسرون الرؤية التي يثبتونها بنحو ما يفسرها به المعتزلة وغيرهم من الجهمية، فهم ينصبون الخلاف فيها مع المعتزلة ونحوهم، ويتظاهرون بالرد عليهم [ ص: 401 ] وموافقة أهل السنة والجماعة في إثبات الرؤية، وعند التحقيق فهم موافقون للمعتزلة، إنما يثبتون من ذلك نحو ما أثبته المعتزلة من الزيادة في العلم ونحو ذلك مما يقوله المعتزلة في الرؤية، أو يقول قريبا منه، ولهذا يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي.
فعلم أن هؤلاء حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة، وإن كان ظاهرهم ظاهر أهل الإثبات، كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة أمرهم أمر الملاحدة نفاة الأسماء والصفات بالكلية، وإن تظاهروا بالرد عليهم، والملاحدة حقيقة أمرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية. هذا لعمري عند التحقيق. وأما عوام الطوائف، وإن كان فيهم فضيلة وتميز فقد يجمعون بين المتناقضات تقليدا وظنا، ولذا لا يكونون جاحدين وكافرين مطلقا، لأنهم يثبتون من وجه وينفون من وجه، فيجمعون بين النفي والإثبات.