والذين قالوا إنه جسم نوعان:
أحدهما: -وهو قول علمائهم- إنه جسم لا كالأجسام، كما يقال ذات لا كالذوات، وموصوف لا كالموصوفات، وقائم بنفسه لا كالقائمات، وشيء لا كالأشياء، فهؤلاء يقولون هو في حقيقته ليس مماثلا لغيره بوجه من الوجوه، لكن هذا إثبات أن له قدرا يتميز به، كما إذا قلنا موصوف، فهو إثبات حقيقة يتميز بها، وهذا من لوازم كل موجود، ولهذا يقولون: نعني بأنه جسم، أنه قائم بنفسه، ونحو ذلك، مع قولهم: إنه ذو الأبعاد الثلاثة، لأنهم يقولون: لا يعقل موجود قائم بنفسه إلا هكذا، ويقولون: إن المشركين وأهل الكتاب لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ربك الذي تعبد هو من ذهب؟ هو من فضة؟ هو من كذا؟ فأنزل الله هذه السورة تنزيها أنه ليس من جنس شيء من [ ص: 284 ] الأجسام، ولا من جنس شيء من الذوات، ولا من جنس شيء من الموصوفات، والأجسام هي الذوات، وهي الموصوفات، وهؤلاء يقولون: إن حقيقته مخالفة سائر الحقائق، فيمتنع عليه أن يجوز عليه ما يجوز عليها، من عدم أو فناء أو تفرق، أو تبعيض ونحو ذلك.
أما النوع الثاني: وهم الغالبية الذين يحكى عنهم أنهم قالوا: هو لحم وعظم ونحو ذلك. فهؤلاء وإن كان قولهم فاسدا ظاهر الفساد: إذ لو كان لحما وعظما، كما يعقل لجاز عليه ما يجوز على اللحوم والعظام، وهذا من تحصيل التمثيل الذي نفاه الله عن نفسه; فإنه سبحانه وتعالى إذ قال: ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص: 4] وقال: إنه (أحد) وقال إنه: ليس كمثله شيء [الشورى: 11] فإنه قد دخل في ذلك ما هو أيضا معلوم بالعقل، وهو أنه لا يكون من جنس شيء، أو بما يقتضي أنه يجوز عليه الإشارة إلى شيء دون شيء من الأشياء، وإن كان هو أكبر مقدارا من ذلك الشيء، فإن القدر [ ص: 285 ] الصغير من ذهب أو فضة أو نحاس، هو من جنس المقدار الكبير، وهذا بعينه هو الذي نزه الله نفسه عنه في هذه السورة، وهو الذي سأل عنه من سأل من المشركين لما قالوا: هو من ذهب؟ هو من فضة؟ ونحو ذلك.
فمن قال بالتشبيه المتضمن هذا التجسيم فإنه يجعله من جنس غيره من الأجسام، لكنه أكبر مقدارا، وهذا باطل ظاهر البطلان شرعا وعقلا. وهؤلاء هم «المشبهة» الذين ذمهم السلف، وقالوا: المشبه الذي يقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فإن هذا التشبيه هو في الجنس، وإن كان المشبه أكبر مقدارا من المشبه به، إذ لا يقول أحد إلا أنه أكبر. ومع ظهور بطلان قول هؤلاء، لم ينقل عنهم أنهم جوزوا عليه التبعيض والتفرق، لكن هذا لازم قولهم، فإنهم متى جعلوه من جنس غيره، جاز عليه ما يجوز على ذلك الغير، إذ هذا حكم المتجانسين المتماسكين. فهم إن أجازوا عليه من التبعيض والتفرق ما يجوز على مثله، لزمهم القول بجواز تبعيضه وتفرقه، بل بجواز فنائه وعدمه. وإن لم يجوزوا ذلك كانوا متناقضين، وقائلين ما لا حقيقة له، فإنهم يقولون: هو من جنسه وما هو من جنسه. [ ص: 286 ]
وأما إن أراد بلفظ «الأجزاء والأبعاض» ما يريده المتكلمون بلفظ الجسم والتركيب -وهو الذي أراده- فإن الجسم كل جسم عندهم له أبعاض وأجزاء: إما بالفعل على قول من يثبت الجوهر الفرد، وإما بالإمكان على قول من ينفيه - فيقال له: هذا المعنى هو كما يريد الفلاسفة، والمعتزلة، بلفظ الأجزاء الصفات القائمة به، ويقولون: ليس فيه أجزاء حد، ولا أجزاء كم. وعندهم أن الأنواع مركبة من الجنس -وهو جزؤها العام- والفصل -وهو جزؤها الخاص- فإن أردت هذا المعنى فلا ريب أن الحنابلة هم من مثبتة الصفات، وهم متفقون على أن له علما وقدرة وحياة، فهذا النزاع الموجود فيهم هو الموجود في سائر الصفاتية. [ ص: 287 ]
وأما منهم من يثبت ذلك، كما هو المنقول عن السلف والأئمة. ومنهم من نفى ذلك. ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات. ونفاة ذلك منهم يثبتون له مع ذلك الصفات الخبرية، لكن لا اختصاص للحنابلة بذلك كما تقدم بعضه، وكما سيأتي حكاية مذاهب الأئمة والأمة في ذلك. ومنهم طائفة لا تثبت الصفات الخبرية. وصفه بالحد والنهاية، الذي تقول أنت أنه معنى الجسم، فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال: