والتحقيق أن كلا المذهبين باطل، والصواب ما قاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين: أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواء أو ترابا، فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة، كما يقوله المثبتون له، فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب، ولا يكون قابلا للقسمة إلى غير نهاية؛ فإن هذا أبطل من الأول: بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيرا، وليس استحالة الأجسام في صغرها [ ص: 259 ] محدودا بحد واحد؛ بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعا من القسمة، وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه. وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية، بل هذا إنما يكون في المقدرات الذهنية، فأما وجود ما لا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة، وسواء كان بالفعل أو بالقوة، ووجود موجود لا يتميز جانب له عن جانب مكابرة، بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام، فلا يقبل شيء منها انقساما لا يتناهى، كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى.
ولكن بنى هذه الطائفة المشهورة من المتكلمين على مسمى هذا الاسم الهائل الذي هو "الجوهر الفرد" عندهم [إثبات الخالق والمعاد ] وهو عند التحقيق ما لا يمكن أحد أن يحصر [هـ ] بحسه باتفاقهم وعند المحققين لامس له. وما أشبهه القرامطة [ ص: 260 ] بالمعصوم المعلوم الذي بدعته الرافضة والمنتظر المعصوم الذي بدعته الصوفية هو نظير ما يعظمه مقابل هؤلاء والغوث [ ص: 261 ] الذي بدعته جهال الفلاسفة المشائين وأتباعهم من الجوهر المجرد وهو ما يدعونه في النفس والعقول من أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متحرك ولا ساكن، ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترهات، فقول هؤلاء في إثبات هذا الجوهر المجرد كقول أولئك في الجوهر الفرد ثم إن هؤلاء وهؤلاء يدعون أن هذا هو حقيقة الإنسان، هؤلاء يدعون أنه هذا الجوهر المجرد، وهؤلاء يقولون إنه جوهر واحد منفرد، أو جواهر كل منها يقوم به حياة وعلم وقدرة، أو تقوم الأعراض المشروطة بالحياة ببعضها وثبت الحكم للجملة. وعلى هذه المقالات يبنون المعاد.