الوجه السابع عشر: أنه ورد من جهة المنازع تشبيه بالمعدوم، وذلك أن الذي هو التأليف، ومن المعلوم أنهم أحق بالتشبيه الباطل حيث يشبهونه بالمعدومات والناقصات، وهم يجمعون بين التمثيل والتعطيل، بينما هو قول المشركين الذين هم [ ص: 562 ] بربهم يعدلون، وقول الكافرين الذين هم لربهم جاحدون. النفاة كثيرا ما يصفون أهل الإثبات بالتشبيه والتجسيم
وذلك أنهم يقولون إن كل ما هو عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ونحو ذلك فهو من جنس واحد، وهو متماثل؛ لأنه متحيز، والمتحيزات كلها متماثلة. ويقولون: كل ما هو فوق شيء فإنه من جنس واحد متماثل؛ لأنه متحيز، والمتحيزات متماثلة، ويقولون: كل ما له سمع وبصر فهو من جنس واحد وهو متماثل؛ لأنه من المتحيزات التي هي متماثلة، وهذا كله قول الجهمية المعتزلة وغيرهم.
وقد سلك الرازي ذلك في قوله: إن الأجسام متماثلة لكن قصده به نفي العلو على العرش ونفي الصفات الخبرية.
وأما المعتزلة ونحوهم من الجهمية الذين ابتدعوا هذا القول أولا فمقصودهم به النفي المطلق، وكل ذلك بناء على أن جعلوا لله عدلا وسميا وكفوا في كل ما هو موصوف به، حتى إن غاليتهم من الملاحدة والجهمية يقولون: كل ما يقال له حي [ ص: 563 ] وعالم وقادر فهو جنس واحد متماثل، هؤلاء جعلوا لله عدلا وسميا وكفوا وندا في كل ما له من الأسماء والصفات، حتى لزم من ذلك أن يكون كل جسم عدلا لله ومثلا وكفوا حتى البقة والبعوضة! وأن يكون كل حي عدلا لله وكفوا وسميا وكل ذلك بناء على أن كل ما هو مسمى بهذه الأسماء موصوف بهذه الصفات فإنه جنس واحد متماثل، وهذا من أعظم العدل بالله وجعل الأنداد لله.
ثم إنهم نفوا ذلك عن الله فجحدوه بالكلية، وعطلوه فصاروا مشركين معطلين؛ ولهذا جوز الاتحادية منهم عبادة كل شيء وجعلوا كل شيء عابدا ومعبودا، وجوزوا كل شرك في العالم، فجمعوا جميع ما عليه المشركون من الأقوال والأفعال، فهذا تمثيلهم وعدلهم بالله وإشراكهم به وتشبيههم إياه بخلقه فيما لله من صفات الإثبات.
وأما عدلهم وتمثيلهم فيما يصفونه به من السلوب فهم [ ص: 564 ] يعدلونه بالمعدوم تارة وبالمنقوصات أخرى؛ فإنهم تارة يصفونه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم، فيكونون عادلين به المعدومات.
وقد قدمنا فيما مضى أن الله سبحانه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيا، وأما وبينا أيضا أن كل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح لله تعالى؛ لأن تلك الصفة لا مدح فيها بحال؛ إذ المعدوم المحض لا يمدح بحال، وما ليس فيه مدح فإن الله لا يوصف به سبحانه وتعالى، بل له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، ولما ذكرناه أيضا فيما تقدم. الصفة السلبية التي لا تتضمن ثبوتا فلا يوصف بها إلا المعدوم،
وأما تمثيلهم له وعدلهم إياه بالمنقوصات القبيحات من المخلوقات، فقولهم إنه لا يتكلم، وإن وصفوه بالكلام ظاهرا موافقة للمؤمنين، فمعناه عندهم أنه خلق كلاما في غيره [ ص: 565 ] وكذلك قولهم إنه ليس له سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك.
وإذا كان كذلك ظهر ما ذكر من جهة المنازع، فإن المنازع قلب عليهم القضية وقال: إذا ألزمتمونا أن نجعله كالجوهر الفرد فأنتم جعلتموه كالمعدوم؛ وذلك أنه لما قال إنه لا يمكن أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر؛ لأن ذلك حقير، وذلك على الله محال، فقال المنازع: أنتم قلتم لا يمكن الإحساس به أو الإشارة إليه بحال، والذي لا يمكن الإحساس به ولا الإشارة إليه يكون كالمعدوم، فيكون أشد حقارة، فإذا جاز وصفكم بهذا فلم لا يجوز الأول؟! وهو كلام قوي جدا.
والمنازع وأصحابه يعلمون صحة هذا الكلام؛ لأنهم يقرون في مسألة الرؤية أن كل موجود يجوز أن يحس بالحواس الخمس، ويلتزمون على ذلك أن الله يجوز أن يحس به [ ص: 566 ] بالحواس الخمس: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس. وأن ما لا يحس به بالحواس الخمس لا يكون إلا معدوما، فعامة السلف والصفاتية على أن الله يمكن أن يشهد ويرى ويحس به. وأول من نفى إمكان إحساسه لما ناظره الجهم بن صفوان السمنية المشركون .