الوجه الثاني والأربعون: أن جميع الناس من المثبتة والنفاة متفقون على أن هذه المعاني التي حكيتها عن خصمك هي التي تظهر للجمهور ويفهمونها من هذه النصوص، [ ص: 359 ] من غير إنكار منهم لها، ولا قصور في خيالهم ووهمهم عنها، والنفاة المعتقدون انتفاء هذه الصفات العينية لم يعتقدوا انتفاءها لكونها مردودة في التخيل والتوهم، ولكن اعتقدوا أن العين التي تكون كذلك هو جسم، واعتقدوا أن البارئ ليس بجسم، فنفوا ذلك.
ومعلوم أن كون البارئ ليس جسما ليس هو مما تعرفه الفطرة والبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة، ولا بمقدمات بينة في الفطرة; بل بمقدمات فيها خفاء وطول، وليست مقدمات بينة، ولا متفقا على قبولها بين العقلاء; بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد، وطوائف كثيرة من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله، ويقولون: بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب، وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسما، وما لا يكون جسما لا يكون إلا معدوما. ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول.
وإن قال النفاة: إن هذا حكم الخيال والوهم، فقد اتفقوا على أن الوهم والخيال يثبت الصانع على قول مثبتة الجسم، لا على قول نفاته. فإذا كان الوهم والخيال يثبته كذلك، بإقرار النفاة، فكيف تكون هذه الصفات منفية عنه في حكم الوهم [ ص: 360 ] والخيال؟! هذا خلاف ما اتفق عليه النفاة والمثبتة; بل على هذا التقدير يكون وهذا أمر بين لا يتنازع فيه عاقلان. الوهم والخيال مقرا بما قاله أهل الإثبات في الذات والصفات دون ما قاله النفاة.