قلت: والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: الجهمية الذين خاطبهم الأئمة، كما ذكر في احتجاجه عليهم أنه إذا كان وحده ثم خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه، الإمام أحمد ولم يكن القسم الثالث وهو أن يقال: خلقه لا في نفسه ولا خارجا عن نفسه؛ لأن هذا معلوم انتفاؤه بضرورة [ ص: 135 ] العقل، ولا نازعه في ذلك أن كون الموجود إما داخل العالم وإما خارجه، مثل كونه إما قديما وإما حديثا، إما خالقا وإما مخلوقا، وإما قائما بنفسه وإما قائما بغيره، وإما واجبا وإما ممكنا، وهذا معلوم بالفطرة الضرورية؛ ولهذا لم يكن ينازع في ذلك الجهمية الذين قالوا في العالم /غير مماس ولا مباين. وإن دعوى أولئك قد يسلم الرازي وأمثاله أنها معلومة بالفساد وبضرورة العقل؛ فدعواه أظهر فسادا في ضرورة العقل كما تقدم التنبيه عليه؛ إذ العرض في الجوهر ليس بمماس له ولا مباين له، ولا يوجد جوهر ولا عرض إلا وهو مباين للآخر أو محايث له.
فكل من طائفتي الجهمية يوافق الجماعة على أن قول الأخرى مخالف لضرورة العقل، وحقيقة الأمر أن قول الطائفتين جميعا مخالف لضرورة العقل. وقول هؤلاء: الموجود المباين للعالم ليس بداخل العالم ولا خارجه، أو قولهم: الموجود ليس بداخل العالم ولا خارجه؛ مثل قول إخوانهم أنه في العالم ليس بمباين للعالم ولا مماس له، فإذا كان قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة فكذلك قولهم، وإلا فلا فرق؟ بل قولهم أظهر فسادا كما تقدم [إذ قد عرف وجود ليس بمماس لموجود ولا مباين له، ولم يعرف موجود ليس بمباين لوجود آخر، ولا محايث له]، وكذلك قول الملاحدة: أنه موجود ليس بحي ولا ميت، ولا هو عالم ولا جاهل، ولا هو قادر ولا عاجز، ونحو ذلك، فهذه الأمور معلوم فسادها بضرورة [ ص: 136 ] العقل، ودعوى وجود موجود خارج عن هذين القسمين مخالف لفطرة العقل الضرورية، وهو من أعظم السفسطة، فلا تقبل من أحد دعوى ذلك، ومتى سمع ذلك وجب أن تسمع نظائره من السفسطة.