ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات، وإنما تقر بما أحسته -ويذكرون ذلك عن [ ص: 328 ] "البراهمة السمنية" - فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء، وتغليط من أولئك، وقد ذكر الإمام رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر أحمد الجهمية في هذه الملة فقال: (وكان مما بلغنا من أمر مبدأ حدوث عدو الله أنه كان من أهل الجهم خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات [ ص: 329 ] وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي ناسا من المشركين يقال لهم "السمنية" فعرفوا فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا [دخلنا ] في دينك، فكان مما كلموا به الجهم، أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم نعم، فقالوا له: هل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ فتحير الجهم: فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى؛ وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في الجهم، عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله [ ص: 330 ] تعالى، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار. فاستدرك حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله: لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت؛ ولا تشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان؛ ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله: الجهم ليس كمثله شيء [الشورى: 11 ] وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3 ] و لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103 ] فبنى أصل كلامه كله على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من وزعم أن من وصف [ ص: 331 ] الله بشيء مما وصف به نفسه [في كتابه ] أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرا، المشبهة، فأضل بشرا كثيرا ).