ومما يبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضا، كما تنقض مذهب خصمه، ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى، وإن كانت هي أيضا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة.
ويوضح ذلك ما ذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه: "مناهج الأدلة في الرد على [ ص: 115 ] الأصولية" هذا بعد أن قال في خطبته: "أما بعد فإنا كنا قد بينا قبل هذا في قول أفردناه وقلنا هناك: إن مطابقة الحكمة للشرع، وأمر الشريعة بها، الشريعة ظاهر ومؤول، وأن الظاهر منها هو فرض الجمهور، وأن المؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله".
قلت: فقد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره، وقد فرض عليهم حمله على ظاهره، قال: "وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور كما قال -رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما [ ص: 116 ] يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" قلت: حرف لفظ حديث علي ومعناه؛ فإن علي قال -كما ذكره عليا في صحيحه من رواية البخاري معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن [ ص: 117 ] قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله". وهذا يدل على نقيض مطلوبه؛ لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله، فعلم أن من الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لا يطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لا يطيق ذلك كذب الله ورسوله، وهذا إنما يكون في [ ص: 118 ] ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم به، لا في خلاف ما قاله، ولا في تأويل ما قال بخلاف ظاهره، فإن ذكر ذلك لا يوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله؛ نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبا لله ورسوله: إما في الظاهر، وإما في الباطن والظاهر. فلو أريد ذلك لكان يقول: أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله، أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله. فإن المكذب من قال ما يخالف قول الله ورسوله إما ظاهرا؛ وإما ظاهرا وباطنا. علي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله، وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين؛ فإن المؤمن لا يكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك؛ بل يرد ذلك عليه. وعلي
فإن قال: هذه التأويلات الباطنية قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للخاصة قيل: هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب، وقد ثبت عن -رضي الله عنه- [ ص: 119 ] في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علما اختص به، فبين لهم علي -رضي الله عنه- أنه لم يخصه بشيء. علي
قال الحفيد: (فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة، فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة؛ حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة، كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من [ ص: 120 ] خالفه: إما مبتدع، وإما كافر مباح الدم والمال، وهذا كله عدول عن مقصد الشارع، وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة، وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى ( بالأشعرية ) وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة. والتي تسمى ( بالمعتزلة ) والطائفة التي تسمى ( بالباطنية )، والطائفة التي تسمى ( بالحشوية ) وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر، وإما مبتدع. وإذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشارع ظهر أن جلها أقاويل محدثة، [ ص: 121 ] وتأويلات مبتدعة، وأنا أذكر أن ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لا يتم الإيمان إلا بها، وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم، دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح، وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى، والطرق التي سلك بهم في ذلك، وذلك في الكتاب العزيز ونبتدئ من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف. وقبل ذلك، فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرقة المشهورة في ذلك، فنقول: أما الفرقة التي تدعى "بالحشوية" فإنهم قالوا: إن هو السمع لا العقل. أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى [ ص: 122 ] من صاحب الشرع [ويؤمن به إيمانا ]، كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه. وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها على الإقرار به، وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيه، مثل قوله تعالى: طريق معرفة وجود الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 21 ] ومثل قوله تعالى: أفي الله شك فاطر السماوات والأرض [إبراهيم: 10 ] إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى. وليس لقائل أن يقول: إنه لو كان ذلك واجبا على كل من آمن بالله تعالى -أعني أن لا يصح إيمانه [إلا ] من قبل وقوعه عن هذه الأدلة- لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة؛ فإن العرب كلها [ ص: 123 ] كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان: 25 ] ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع صلى الله عليه وسلم للجمهور، وهذا فهو أقل الوجود، وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع. فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع ).
ثم قال: (وأما "الأشعرية" فرأوا أن التصديق [ ص: 124 ] بوجود الله تعالى لا يكون إلا بالعقل؛ لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية ). وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولا.