قلت: "الحشوية" في لغة الناطقين به ليس هو اسما لطائفة معينة لها رئيس. قال مقالة فاتبعته مسمى كالجهمية والكلابية والأشعرية، ولا اسما لقول معين من قاله كان كذلك.
والطائفة إنما تتميز بذكر قولها، أو بذكر رئيسها؛ ولهذا [ ص: 125 ] كان المؤمنون متميزين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله، والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا بني الإيمان، وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا -إلى قوله- فإن حزب الله هم الغالبون [المائدة: 55، 56 ]. وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة: 71 ] وأمثال ذلك، وقال تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [المائدة: 104 ] وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان: فذكر أن الكفار [ ص: 126 ] لا يستجيبون لذاك، وكذلك ذكر عن المنافقين فقال: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [النساء: 60، 61 ] فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول، فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك، بل هم كما قال الله تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا [النور: 51 ]. وقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [النساء: 65 ] وبذلك أمرهم حيث قال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59 ] وبذلك حكم بين أهل الأرض، كما قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [البقرة: 213 ] وشواهد هذا الأصل كثيرة.
[ ص: 127 ] / والناس منذ بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: إما كافر معلن، وإما منافق مستتر، وإما مؤمن موافق ظاهرا وباطنا، كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنا وظاهرا، وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة، ولا يجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته؛ لا أخص من المؤمنين -لو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية، والشافعية، والحنبلية، أو غير ذلك- ولا أعم من ذلك -مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك- ولا يجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية، وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها ما دلت عليه، ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له.
وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو بن عبيد رئيس [ ص: 128 ] المعتزلة فقيههم وعابدهم، فإنه ذكر له عن شيء يخالف قوله، فقال كان ابن عمر حشويا نسبة إلى الحشو، وهم العامة والجمهور. فإن الطوائف الذين تميزوا عند أنفسهم بقوله، تميزوا به عما عليه جماعة المسلمين. وعامتهم يسمونهم بنحو هذا الاسم فالرافضة تسميهم [ ص: 129 ] الجمهور، وكذلك تسميهم ابن عمر الفلاسفة، كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب، والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كل من أثبت الصفات وأثبت القدر. وأخذ [ ص: 130 ] ذلك عنها متأخرو الرافضة فسموا الجمهور بهذا الاسم. وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة، فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم ونحو ذلك سموه حشويا، كما رأينا ذلك مذكورا في مصنفاتهم، والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الحسي، والنعيم الحسي "حشويا" وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية سموا من أقروا بما ينكرونه من [ ص: 131 ] الصفات و ومن يذم ما دخلوا فيه من بدع الكلام الجهمية والإرجاء "حشويا" ومنهم أخذ ذلك المصنف.