قلت: الصواب هو القول الأول، وهو أنه لم يأتهم نفس تأويله، أي: لم يأت بعد تأويله الذي أخبر به فيه، لم يرد أنهم لم يعلموا تأويله، فإن هذا المعنى هو الذي نفاه بما لم يحيطوا بعلمه، ويدل عليه أنه قال: ولما يأتهم تأويله .
وقال هناك: لم يحيطوا، (ولما) ينفى بها ما ينتظر وقوعه ويقرب وقوعه، فدل على أن تأويله سيأتيهم، كقوله تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه [النحل: 1]. ولهذا قال: فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [يونس: 39]. لأن عاقبة هؤلاء إذا أتاهم تأويله مثل عاقبة أولئك، ومنه قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ ص: 288 ] [فصلت 53]. بما لم يحيطوا بعلمه [يونس: 39]. أي لم يحيطوا بعلم القرآن، أي: بما فيه من العلم ولا بالعالم، وقيل: ولم يحيطوا بعلم التكذيب به، لأنهم كانوا في شك، وهو ضعيف، وقال تعالى في موضع: وقوله تعالى: أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما [النمل: 84]. أي: لم يحط علمكم بها، فإنما يجعل العلم محيطا بالمعلوم، وتارة يجعل العالم محيطا بالعلم، كقوله تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [البقرة: 255]. والعلم يضاف إلى العالم تارة وإلى المعلوم أخرى، وهذا يؤيد أن قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه [يونس: 39]. أي: لم يحيطوا بمعرفته، فعلمهم لم يحط به، والعلم الذي فيه هو من ذلك، فلم يحيطوا بشيء من هذا العلم.
وهذه الآية توجب كقوله تعالى: أن الإنسان لا يكذب إلا بخبر يعلم ويعرف أنه كذب، والخبر المجهول يسكت عنه، إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين [الحجرات: 6]. فلا يكذب به، ولا يقفوه ويتبعه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما حدثنا أهل الكتاب [ ص: 289 ]
[ ص: 290 ] وقد قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59]. وقال يعقوب ليوسف: وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث [يوسف: 6]. وقال الفتيان ليوسف: نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين [يوسف: 36]. قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [يوسف: 37]. وقال الملأ للملك: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين [يوسف: 44]. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون [يوسف: 45]. وقال يوسف: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا [يوسف: 100]. إلى قوله: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث [يوسف: 101]. [ ص: 291 ]
فلفظ التأويل في جميع موارده ما يؤول إليه الشيء، وهو عاقبته، وتأويل الكلام ما يؤول إليه، والكلام إما أمر وإما نهي وإما خبر، فتأويل الخبر هو نفس الشيء المخبر به، وتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، والإنسان قد يعلم تفسير الكلام ومعناه، ولا يعلم تأويله.
فإن التأويل يفتقر إلى معرفة ماهيته الموجودة في الخارج والتمييز بينها وبين غيرها، وليس كمن فهم الكلام وتفسيره علم ذلك كالذي يعرف أسماء أمكنة الحج وأفعاله، وقد قرأ القرآن والحديث وكلام العلماء في ذلك، لكنه لم يعرف عين البيت، وعين الصفا والمروة، وعين عرفة، والمشعر الحرام، ونحو ذلك، مما لا يعرفه الإنسان إلا بالمشاهدة، ولكن قد يعرف بالعلم. ولهذا قال أبو عبيدة لما ذكر تنازع الفقهاء وبعض أهل اللغة في اشتمال الصماء قال: والفقهاء أعلم بالتأويل [ ص: 292 ]
وهذا هو التفسير الذي يعلمه العلماء، وهو أخص من التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها، وذلك أن أهل العلم بتأويل الأمر والنهي والحلال والحرام مثل الذي يعرف عين المأمور به والمنهي عنه والمحرم، ولهذا يفتون ويحكمون في الأمور المعينة مثل الذي يعرف أن هذه الجهة جهة الكعبة، وأن هذا اللباس مما يجوز أو لا يجوز لبسه، وأن هذا المكان هو الميقات الذي يحرم منه، كما يعرف الطبيب أعيان الأمراض والأدوية، وبمنزلة الأرض المحدودة، والشخص المسمى، ونحوهما، فالشهود قد يشهدون على قول المقر، وعلى شاهد آخر، وهم إنما يشهدون بما يعلمون، ولكن لا يعرفون عين المسمى الموصوف، والذين يعرفون مسميات تلك الحدود يعرفون نفس الأرض المحدودة، ونفس الشخص الذي اسمه فلان بن فلان، والشاهد إذا عاين المشهود عليه وشخصه، فهذا بمنزلة التأويل، بخلاف ما إذا شهد على مسمى موصوف ولم يعينه، فإنه وإن كان كلامه مفهوما، لكن لم يدل على العين، ويجوز أن يسمي غير المشهود عليه بذلك الاسم.
ولهذا أكثر الناس يعرف من تفسير القرآن ما يعرف، ويعرف معنى الإيلاء والظهار والمتعة والخلع ونحو ذلك، بل ويعرف أقوال العلماء فيها، ولا يقدم على التعيين خوف الغلط [ ص: 293 ] بالمعرفة بمطابقة ما في الخارج.
كذلك الكلام هو معرفة بالتأويل، وهو أخص من التفسير، وكثير من الفقهاء يعرف تأويل الآية والحديث غير المراد، وإن لم يمكنه بيان دلالة اللفظ، ولا يعرف عين المراد، ومثل هذا موجود في الطب وغيره من العلوم.
وإذا تبين هذا، فالقرآن وكل كلام: إما خبر، وإما إنشاء كالطلب. فما أخبر به فتأويله نفس المخبر به، والله تعالى قد أخبر عن نفسه بما ذكر من أسمائه وصفاته، فتأويل ذلك هو الرب نفسه تعالى وتقدس بصفاته، وهو سبحانه لا يعلم ما هو إلا هو، لهذا كان السلف: كربيعة، ومالك، وابن الماجشون، وغيرهم، يذكرون أنه مصروف [ ص: 294 ] معاني الأسماء والصفات، وإن لم يعلم كيفيته، كقول وأحمد بن حنبل، ربيعة "الاستواء معلوم، والكيف مجهول". وفي كلام بعضهم: يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، ونحو ذلك. ومالك:
وهذا مذهب السلف والجمهور: أن للرب سبحانه وتعالى حقيقة لا يعلمها البشر، وقد يسمونها ماهية ومائية [ ص: 295 ] وكيفية، ولهذا قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: "ولا يتفكرون في ماهية ذاته". وقال الشيخ أبو علي بن أبي موسى، والشيخ أبو الفرج الشيرازي المقدسي وغيرهما: "لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال".
وطائفة من المتكلمين يدعون أنهم عرفوه حق المعرفة، وليس له حقيقة وراء ما عرفوه، كما يقول ذلك كثير من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، وهؤلاء يقولون: ليس له حقيقة ولا ماهية ولا كيفية وراء ما عرفوه، وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع، وذكر النزاع بين وغيره، وما قال [ ص: 296 ] في ذلك ضرار بن عمرو القاضي أبو بكر وغيره.
والمقصود هنا وإذا عرف ذلك، فإذا قيل التأويل لا يعلمه إلا الله بمعنى أن ما وعد به من الثواب والعقاب لا يعلم قدره ولا صفته إلا هو، ولا يعلم وقته إلا هو، فهذا حق، قال تعالى: معرفة مسمى التأويل في القرآن واللغة التي نزل بها القرآن، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [السجدة: 17]. وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: [ ص: 297 ] «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
وإذا قال عن صفات الرب كالاستواء وغيره كما قال ربيعة وغيرهما: "إن الاستواء معلوم والكيف مجهول لنا، غير مجهول له" وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، بخلاف معنى الاستواء، فإن هذا معلوم، وهو من تفسير اللفظ. ومالك