وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى برد النعمة [ ص: 385 ] وروحها وراحتها، من قولهم: «عيش بارد» إذا كان رغدا.
يقال له: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه إذا قال: «فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي» وفي لفظ: «في صدري» ومعلوم أن الضمير إنما يعود إلى مذكور ولم يتقدم إلا اليد، فعلم أن الضمير عائد إليها.
الثاني: أن تأويل اليد بالنعمة قد تقدم إبطاله فلا يصح عود الضمير إليها.
الثالث: أنه لو كان المراد النعمة فالنعمة شاملة لظاهره وباطنه، كما قال تعالى: وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة [لقمان: 20] فتكون موضوعة في ظهره وصدره، ويكون أثرها كذلك، أما تخصيص النعمة بظهره، وتخصيص بردها بصدره أو بين ثدييه فظاهر البطلان.
[ ص: 386 ] الرابع: أن في أخبار أخر وهذا تصريح في أن الذي وجد برده هو اليد الموضوعة على ظهره. «حتى وجدت برد أنامله على صدري»
وأما قوله في بعض الروايات: وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فإنه قال فيما بعد (الفصل الثالث والعشرون) في (الأنملة) هذه اللفظة غير واردة في القرآن، ولكنها واردة في الخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فوجدت برد أنامله» قال: والتأويل أن يقال للملك الكبير: ضع يدك على رأس فلان، والمراد: اصرف عنايتك إليه، فقوله: «وضع يده على كتفي فوجدت برد أنامله فعلمت ما كان وما يكون». معناه: صرف العناية إلي. وقوله: «وضع يده على كتفي» معناه: وجدت أثر تلك العناية فإن العرب تعبر عن وجدان الراحة واللذة بوجدان البرد، وإذا أرادوا الدعاء قالوا: «برد الله [ ص: 387 ] تلك الديار». «فوجدت برد أنامله»
فيقال: أما ما ذكره من تأويل وضع اليد بصرف العناية فقد تقدم بيان فساده، وما استشهد به من أنه يقال: للملك الكبير «ضع يدك على رأس فلان» أي اصرف عنايتك إليه، فهذا كلام باطل، لم يقل بمثل هذا المعنى أحد يحتج به في اللغة، بل هذا من باب الافتراء المحض على اللغة العربية.
ويمكن أن يتكلم بمثل ذلك بعض المولدين والأعاجم، لكن مثل كلام هؤلاء لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يحمل كلامه على اللغة التي كانت يخاطب بها، وليس في تلك اللغة أن يقال: «ضع يدك على رأسه» بمعنى: اصرف عنايتك إليه.
وأيضا فالعناية هي مشيئة الله، وتلك صفة قائمة به، فإذا كانت تلك الصفة قديمة لازمة للموصوف كيف تصرف إلى شيء؟ بل إذا كانت تصرف على هذا التقدير فالمراد بها بعض المخلوقات، وقد تقدم الكلام على هذا.