أما من أن معنى قوله: الغزالي، آدم على صورته" أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني، "خلق ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير [ ص: 542 ] والتصرف، ونسبة ذات التأويل الثالث المذكور عن آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم، من حيث أن كلا منهما غير حال في هذا الجسم، وإن كان [مؤثرا فيه بالتصرف والتدبير]. فهذا يشبه ما ذكره عن الإمام أحمد في مناظرته للمشركين الجهم، السمنية، قال: "وكان وشيعته كذلك، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا، وكان مما بلغنا من أمر الجهم أنه كان من أهل الجهم خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في [ ص: 543 ] الله تبارك وتعالى فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتنا عليك دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم، أن قالوا (له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم نعم، فقالوا له: [فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل] سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا): فشممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا. قالوا: [ ص: 544 ] فوجدت له محسا؟ قال: لا. قالوا: فما [يدريك] أنه إله؟ قال: فتحير الجهم: فلم [يدر] من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة، من النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في الجهم، عيسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا هي من روح الله، ومن ذات الله، فإذا أراد [الله] أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار. فاستدرك حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ فقال: نعم، فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: [ ص: 545 ] فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسا؟ أو محسا قال: لا. قال: فكذلك الله تعالى لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجد ثلاث آيات من [المتشابه]" كما تقدم ذلك. الجهم
فقد الله بالروح التي في الإنسان، الجهم من جهة أن كلاهما لا يشبه بشيء من الحواس الخمس، مع تدبيره لذلك الجسم. شبه
وهذا يشبه قول الصابئة المتفلسفة، الذين اتبعهم أبو حامد، [ ص: 546 ] حيث ادعوا أن الروح هي كذلك، ليست جسما، ولا يشار إليها، ولا تختص بمكان دون مكان، ولكنها مدبرة للجسد، كما أن الرب مدبر للعالم، مع أن في كلام أبي حامد من التناقض في هذه الأمور ما ليس هذا موضع استقصائه.
وبهذا يتبين ما نبهنا عليه في غير موضع أن مذهب الجهمية هو من جنس دين الصابئة المبدلين، وذكر أن أستاذه كان من أتباعهم، وعلماء هؤلاء هم المتفلسفة. ولهذا لما دخلت الجعد بن درهم المعتزلة في دين الجهمية واتبعوا هؤلاء الصابئة الفلاسفة في مواضع كثيرة، كما قيل المعتزلة مخانيث الفلاسفة، وقد ذكر ذلك غير واحد من المطلعين على المقالات.
ولما كان هؤلاء المتفلسفة الصابئون لا يجمعهم قول في باب العلوم الإلهية، بل بينهم فيها من التفرق والاضطراب [ ص: 547 ] ما لا يحصيه إلا رب الأرباب. كان للجهمية من المعتزلة ونحوهم من ميراث هؤلاء أوفر حظ ونصيب. ولا ريب أنهم لا بد أن يخالفوا أهل [النفي] العظيم، والتعطيل المطلق منهم، فيكون بينهم منازعات ومجادلات عظيمة.
[و]أيضا كذلك هم مع المجوس في باب القدر والأفعال، فإنهم شركوا المجوس في تشبيه أفعال الله تعالى بأفعال الواحد من الآدميين، ووضعوا له شريعة بالقياس على أنفسهم، فيوجبون عليه ويحرمون عليه من جنس ما يوجب عليهم ويحرم، وهم مع هذا يخالفون المجوس في الأصلين: النور والظلمة، ويردون عليهم، لكن هم مع مخالفتهم المجوس [ ص: 548 ] والصابئين في كثير من الأصول فقد شركوهم في كثير من الأصول، وخرجوا من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه هؤلاء من الضلال، ومعهم من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه المسلمين من الحق وإن كان بعضه مع هؤلاء، وبعضه هو من الحق الذي خالفوا فيه هؤلاء.