أحدها: أن ذلك يستلزم أن يكون في الأمكنة والأجسام القبيحة المذمومة كالحشوش، وأن يكون في جوف الإنسان وفمه، وهذا مما يعلم الإنسان بفطرته وبديهة عقله أن الله سبحانه منزه عنه، ويعلم بضرورة حسه وعقله أن الله ليس في جوفه، وأن ذاته لا تصلح أن تلاصق النجاسات والأجواف؛ بل جبريل ونحوه قد نزههم أن يدخلوا بيتا فيه كلب أو جنب وإنما يحضر الحشوش الشياطين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ملائكته عليهم السلام مثل "إن هذه الحشوش محتضرة".
[ ص: 74 ] والحجة الثانية: أنه كان يجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا زيد فيها بالخلق، وينقص بنقصانها إذا نقص منها، وهذا على قول من يقول منهم: إنه في كل مكان لا يفضل عن العالم. فإن الأمكنة إذا زادت زاد، وإذا نقصت نقص بالضرورة.
والحجة الثالثة: أن ذلك يوجب دعاءه والرغبة إليه إلى جهة السفل واليمين والشمال، وذلك مخالف لإجماع المسلمين؛ لأن [الرغبة هي إليه نفسه حيث كان، فإذا كان في الأرض كما هو فوق العرش كانت الرغبة] إليه هنا: كالرغبة إليه هناك.
قبله قد احتج في "كتاب الإبانة" المشهور؛ بهذا التنزيه، فاحتج بتنزيهه عن أن يكون مستويا على الأقذار على [ ص: 75 ] منع أن يكون الاستواء هو الاستيلاء، واحتج على نفي كونه في كل مكان بتنزيهه عن أن يكون في النجاسات، وقال: "وقد قال قائلون من والأشعري المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله: الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في إلى معنى القدرة، ولو كان هذا كما قالوه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى؛ لأن الله عز وجل قادر على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم فالله قادر عليه. فلو [كان] الاستواء بمعنى الاستيلاء لكان الله مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأنتان والأقذار؛ لأن الله سبحانه وتعالى قادر على الأشياء كلها، [ ص: 76 ] ولما لم نجد أحدا من المسلمين يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء" قال: "وزعمت الاستواء على العرش المعتزلة والجهمية والحرورية أن الله عز وجل في كل مكان، فلزمهم أن يكون في بطن مريم وفي الحشوش، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ويقال لهم: إذا لم يكن الله مستويا على العرش، بمعنى يختص به العرش دون غيره، كما قال ذلك نقلة الآثار، وكان الله في كل مكان فهو سبحانه تحت الأرض، والأرض فوقه والسماء فوق الأرض، وفي هذا ما يلزمهم أن الله تحت التحت والأشياء فوقه، وهو عز وجل فوق الفوق والأشياء كلها تحته، وهذا يوجب أنه فوق ما تحته وتحت ما فوقه، وهو المحال الفاسد المتناقض، تعالى الله ربنا جل جلاله عن ذلك [ ص: 77 ] علوا كبيرا".