وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية مختصا بالموجود، فإما أن يكون قدرا مشتركا بين المرئيات من الجواهر والأعراض أو أمرا مختصا ببعضها، لكن الثاني باطل، فإن الحكم المشترك يجب أن يكون سببه مشتركا، لأنه لو كان سببه مختصا كان الحكم موجودا مع وجوده وموجودا مع عدمه، فلا يكون الحكم متوقفا عليه، بل يكون ذلك الوصف عديم التأثير فيه، لا أثر له في وجوده، إذ هو موجود مع عدمه، كوجوده مع وجوده، وهذا بين، وقد نبهنا عليه فيما تقدم في تماثل العلل والمعلولات، وتكلمنا على النقض وعدم التأثير، وبينا الفرق بين العلة التامة التي لا تتبعض وغير التامة، وعلى هذا فرؤية كل [ ص: 331 ] شيء خاص من نوع أو شخص يشارك رؤية غيره في مطلق الرؤية، ويفارقها في خصوص رؤية ذلك النوع أو الشخص، كما أن المرئي يشارك غيره في كونه موجودا مرئيا ويفارقها بخصوص نوعه وشخصه، فيكون الحكم المطلق المشترك وهو مطلق الرؤية معلقا بالقدر المشترك بين المرئيات، والحكم الخاص وهو الرؤية الخاصة معلقا بالقدر المختص في كل نوع وشخص على حدته.
وبهذا التحقيق يندفع ما يقال هناك: إن الرؤية قد تكون معلقة بخصوص المرئي: مثل أن تكون رؤية الجواهر والأعراض معلقة تخص الأعراض، فإنه إذا فهم أن الرؤية جنس تحتها أنواع كالمرئيات، وأن العام المطلق يضاف إلى العام المطلق، والخاص المقيد يضاف إلى الخاص المقيد اندفع هذا وغيره ويزول ما ينقض العلة ويبين عدم تأثيرها.
وإذا كان كذلك، وأن المقتضي لها مشترك فالمشترك بين [ ص: 332 ] المرئيات من الأعيان القائمة بأنفسها والصفات القائمة بغيرها: إما الوجود ولوازمه، وإما غير ذلك، والذي هو غير ذلك هو أخص من الوجود وما كان غير ذلك فلا بد أن يستلزم العدم سواء قيل: هو الحدوث أو غير ذلك، مثل بعض لوازم الحدث، لأن المشترك إذا لم يكن هو الوجود، ولا شيئا من لوازمه التي يلزم من عدمها عدم الوجود كان أخص من الوجود بحيث يكون وجود خاص لئلا يلزم من عدم هذا الوجود الخاص عدم الوجود بالكلية إذ كل ما هو مساو للوجود في العموم أو هو أعم منه كالمعلوم والمذكور يلزم من نفيه نفي الوجود، وهو من لوازم الوجود، والكلام هنا في القسم الثاني الذي ليس الوجود ولا شيئا من لوازمه، ولم نقل: ولا شيئا من ملازمه، وهذا الوجود الخاص الذي يقدر أنه سبب الرؤية لا يجوز أن يكون هو الوجود الواجب، فإنا تكلمنا في رؤية المشهودات المخلوقة مع أن علة الرؤية إذا كان هو الوجود الواجب كان ذلك أبلغ في جواز فإنه سبحانه هو الوجود الواجب، لكن ليس الأمر كذلك. رؤية الله تعالى،
[ ص: 333 ] وإذا كان الأمر كذلك فهذا المقتضي للرؤية على هذا التقدير، الذي هو أخص من الوجود: إما أن يكون ما يدخل فيه الوجود الواجب، أو لا يكون، فإن كان المقتضي لجواز الرؤية ما يتناول الوجود الواجب ثبت أن المقتضي لجواز الرؤية أمر مشترك بين الوجود الواجب وبين غيره من المرئيات، وهذا هو المطلوب.
وإن كان المقتضي الأخص لا يدخل فيه الوجود الواجب وجب أن يكون مختصا بما عدا الوجود، وهذا سواء كان هو الإمكان أو الحدوث أو ما هو أخص من الإمكان والحدوث، مثل التحيز أو المقابلة عند من يقول ذلك، هو المقتضي للرؤية، وهو منتف في حق الله، أو المشروط بالثمانية التي يذكرها المعتزلة أو غير ذلك، وكل هذه الأمور إذا قيل بانتفائها عن [ ص: 334 ] واجب الوجود واختصاصها بالمخلوق فإنها مستلزمة للعدم، وأقل ما يكون لقبول العدم، فإن كل ما لا يدخل في الوجود الواجب فهو قابل للعدم، بل هو معدوم تارة وموجود أخرى، وإذا كان كذلك ظهر أن المقتضي للرؤية إذا لم يكن هو الوجود أو لوازمه كان مستلزما للعدم، وإن شئت لقبول العدم، وبهذا التقسيم الدائر بين النفي والإثبات انقطع ما يورد هنا من السؤالات.
وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المقتضي لرؤية المرئيات أمرا يشترط فيه العدم أو قبوله، لأن كونه معدوما أو قابلا للعدم لا يكون مقتضيا لأمر وجودي، فالرؤية أمر وجودي، والأمر الوجودي لا تكون علته أمرا عدميا، والعلم بهذا بديهي لمن تصوره، لكن قد يكون الأمر العدمي مستلزما لوجود مثل عدم الموانع المستلزمة لكمال العلة بوجود شروطها التي هي أجزاء العلة التامة، فيضاف الحكم إلى ذلك العدم، ويكون ذلك إضافة إلى علة ناقصة، والعلة الناقصة تكون جزءا وشرطا من العلة [ ص: 335 ] التامة، والعدم وإن كان في الظاهر جزءا من العلة التامة فلا بد أن يستلزم أمرا وجوديا، وإلا فيمتنع أن يكون العدم علة للوجود أو جزءا من علة الحقيقة بوجه من الوجوه، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المقتضي للرؤية التي هي أمر موجود أمرا يستلزم العدم أو قبول العدم، لأنه يكون العدم أو قبول العدم جزءا من علة الأمر الموجود، وهذا باطل.