قال: " واعلم أن هذا الكلام لا يتم إلا بتقرير مقدمات نحن نذكرها، وتلك الوجوه التي يمكن ذكرها في تقرير تلك المقدمات:
أما المقدمة الأولى: وهي قولنا: إن والدليل عليه هو أن المعدومات لا يصح فيها هذا الحكم، وهذه الموجودات يصح فيها هذا الحكم، فلولا امتياز ما صح فيه هذا الحكم عما لا يصح فيه هذا الحكم بأمر من الأمور وإلا لما كان هذا الامتياز واقعا. كل موجودين في الشاهد فلا بد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر، أو مباينا عنه [ ص: 245 ] بالجهة لا بد له من علة،
وأما المقدمة الثانية: فهي في بيان أن هذا الحكم لا يمكن تعليله بخصوص كونه جوهرا، ولا بخصوص كونه عرضا، فالدليل عليه أن المقتضي لهذا الحكم لو كان هو كونه جوهرا لصدق على الجوهر أن ينقسم إلى ما يكون محايثا لغيره، وإلى ما يكون مباينا عنه، ومعلوم أن ذلك محال، لأن الجوهر يمتنع أن يكون محايثا لغيره، وبهذا الطريق تبين أن المقتضي لهذا الحكم ليس كونه عرضا لامتناع أن يكون العرض مباينا لغيره بالجهة.
المقدمة الثالثة: في بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الحدوث عبارة عن وجود سبقه عدم، والعدم غير داخل في العلة، وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق [ ص: 246 ] إلا الوجود.
والثاني: وهو الذي عول عليه ابن الهيصم في المناظرة التي زعم أنها دارت بينه وبين فقال: " لو كان هذا الحكم معللا بالحدوث لكان الجاهل بكون السماء حادثة جاهلا بأن السماء بالنسبة إلى سائر الموجودات التي في هذا العالم: إما أن تكون محايثة لها أو مباينة عنها بالجهة، لأن المقتضي للحكم إذا كان أمرا معينا فالجاهل بذلك المقتضي يجب أن يكون جاهلا بذلك الحكم، ألا ترى الوجود لما كان هو المستدعي للتقسيم إلى القديم والمحدث لا جرم كان اعتقاد أنه غير موجود مانعا من التقسيم بالقدم والحدوث، فلما كان التقسيم إلى الأسود والأبيض معلقا بكونه كان ملونا كان اعتقاد أن الشيء غير ملون مانعا من اعتقاد التقسيم إلى الأسود والأبيض، ولما رأينا الدهري الذي يعتقد قدم السماوات [ ص: 247 ] والأرض لا يمنعه ذلك من اعتقاد أن السماوات والأرضين إما أن تكون محايثة وإما أن تكون مباينة بالجهة، علمنا أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث. ابن فورك،
الوجه الثالث: في بيان أن المقتضي لهذا الحكم ليس هو الحدوث، وقد ذكره ابن الهيصم أيضا في تلك المناظرة؛ وتقريره: أن كونه محدثا وصف يعلم بالاستدلال، وكونه بحيث يجب أن يكون إما محايثا أو مباينا بالجهة حكم معلوم بالضرورة، والوصف المعلوم الثبوت بالاستدلال لا يجوز أن يكون أصلا للحكم الذي يعلم ثبوته بالضرورة، فثبت بهذه [ ص: 248 ] الوجوه أن المقتضي لهذا الحكم ليس هو الحدوث.
المقدمة الرابعة: وهي في بيان أنه لما كان المقتضي لهذا الحكم في الشاهد هو الوجود، والباري موجود، وكان المقتضي لكونه تعالى إما محايثا للعالم أو مباينا عنه بالجهة حاصلا في حقه، فكان هذا الحكم حاصلا هناك، واعلم أنا نفتقر في هذه المقدمة إلى بيان أن الوجود حقيقة واحدة في الشاهد والغائب، وذلك يقتضي كون وجوده تعالى زائدا على حقيقته، فإنه ما لم يثبت هذا الأصل لم يحصل المقصود. فهذا غاية ما يمكن ذكره في تقرير هذه الشبهة" ومن نظر في تقريرنا لهذه الشبهة وتقريرهم لها علم أن التفاوت بينهما كبير.