وأما المباينة بمجرد الصفة والكيفية فلا تكون إلا بما يقوم بغيره؛ لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال.
ومن ها هنا يتبين لنا : الوجه الخامس والثلاثون، وهو أن المعلوم أن ومباينة الأجسام للأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحيازها وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها، وتتباين مع اختلافها أيضا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين [ ص: 671 ] المختلفين والعرضين المختلفين في محلين، وأدنى ما يتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد، مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض، وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس مباينة الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد؛ فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد، بل إذا كان العالم قائما بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة العرض للجسم الذي قام به، ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض، وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لاسيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه، وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر؛ فإن الله غني عن العالمين كما تقدم. فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقدر؛ لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله،
ومن هاهنا جعله كثير من الجهمية حالا في كل مكان، وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات، أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات. وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل هو تعطيل للصانع: ففيه من إثبات فقره وحاجته على [ ص: 672 ] العالم ما يجب تنزيه الله عنه.
وهؤلاء قد زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة، فلا يكون مفتقرا إلى غيره فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء، وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع؛ فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [مريم 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال: لا داخل العالم ولا خارجه؛ فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته، وأن ذلك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد.
وإذا كان هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدوما كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش: إنهم جعلوه معدوما ووصفوه بصفة المعدوم.
[ ص: 673 ] يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز، ويجب أن يكون موجودا كما تقدم، فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم، أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم، والعالم موجود لا ريب فيه، فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم، وهذه حقيقة قولهم، وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين .