الثالث: أن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب، والمنتقل عنه مغاير للمنتقل إليه.
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن أمر موجود، ثم إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه، وأما الذي يكون مختصا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرا إلى الحيز والجهة؛ فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلا حصوله لا مختصا بالجهة، فثبت أنه تعالى لو كان مختصا بالجهة والحيز لكان مفتقرا في وجوده إلى الغير. الحيز والجهة
وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه:
الأول: أن وكل ما كان كذلك كان ممكنا لذاته، وكل ذلك في حق واجب الوجود [ ص: 587 ] لذاته محال. المفتقر في وجوده إلى الغير يكون في وجوده بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه،
الثاني: أن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لما بينا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر، ويمكن وصفه بالزائد والناقص، وكلما كان كذلك كان مفتقرا إلى غيره ممكنا لذاته، فالشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته، فلو كان الله مفتقرا إليه لكان مفتقرا إلى الممكن، والمفتقر إلى الممكن أولى بأن يكون ممكنا لذاته، فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال.
الثالث: لو كان الباري أزلا وأبدا مختصا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودا في الأزل، فيلزم إثبات قديم غير الله، وذلك محال بإجماع المسلمين.
فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه في الحيز والجهة.
فإن قيل لا معنى لكونه مختصا بالحيز والجهة [ ص: 588 ] إلا كونه مباينا عن العالم منفردا عنه ممتازا عنه، وكونه تعالى كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى، فبطل قولكم لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرا إلى الغير، والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة، وكونه مختصا بالحيز والجهة، لا معنى له إلا كون البعض منفردا عن البعض ممتازا عنه، وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الله تعالى مختصا بالحيز والجهة؟
والجواب: أما قوله الحيز والجهة ليس أمرا موجودا، فجوابه أنا قد بينا بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة، وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك.