فإن قيل: هذا يبين أن فلأي شيء هؤلاء أقروا بهذه وأنكروا تلك؟ مسألة العلو أظهر في الفطرة والشريعة من مسألة الرؤية،
قيل: سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن وإنكار الرؤية، ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو كما تقدم، فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد بن كلاب وأصحابهما فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين بسبب ظهور الخلاف [ ص: 536 ] فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل، ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضا في إنكار أن الله فوق العرش كما تقدم ذكره من كلامهم. وأبي الحسن الأشعري
لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه، بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم، ومباحثهم في مسألة حدوث العالم والكلام في الأجسام والأعراض هو من الكلام الذي ذمه الأئمة والسلف، حتى قال محمد بن خويز منداد: أهل البدع والأهواء عند [ ص: 537 ] وأصحابه هم مالك أهل الكلام، فكل متكلم في الإسلام فهو من أشعريا كان أو غير أشعري. وذكر أهل البدع والأهواء، وغيره أن ابن خزيمة كان يحذر مما ابتدعه الإمام أحمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث، وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل [ ص: 538 ] الفاسدة، وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف؛ فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة ونحوهم.
فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم، فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها، وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي [ ص: 539 ] هاشم بن أبي علي الجبائي، وكان من أذكياء العالم، وكان هو كلاهما تلميذا وأبو الحسن الأشعري لأبي علي الجبائي، لكن رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار، ولا يكفرون أحدا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة، فناقض الأشعري المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإن [ ص: 540 ] كان يخالفه في كثير من المسائل.