فصل
قال الرازي: لو كان مركبا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين، وفي الفعل إلى اليد، وفي المشي إلى الرجل، وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا.
قلت: هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد؛ إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات، لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى، وقد قدمنا أن لفظ الجوارح [ ص: 220 ] والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية، فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيده وخلق عدنا بيده لكان الله محتاجا في الفعل إلى يد، وذلك ينافي كونه صمدا، وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول.
والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه، وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه، قال ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها؛ ثنا عثمان بن سعيد الدارمي: عبد الله بن صالح، [ ص: 221 ] حدثني ليث، حدثني هشام بن سعد، عن [ ص: 222 ] عن زيد بن أسلم، أن عطاء بن يسار قال: لقد قالت الملائكة: يا ربنا منا الملائكة المقربون، ومنا حملة العرش، ومنا الكرام الكاتبون، ونحن نسبح الله الليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر، خلقت بني عبد الله بن عمرو بن العاص، آدم، فجعلت لهم الدنيا [ ص: 223 ] وجعلتهم يأكلون ويشربون ويستريحون، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، فقال: لن أفعل، ثم عادوا فاجتهدوا المسألة، فقال: لن أفعل، ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك، فقال: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان.
[ ص: 224 ] وقد روى نحو هذا في كتاب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أظنه مرسلا، [ ص: 225 ] وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل، عبد الواحد بن زياد، حدثنا عبيد بن [ ص: 226 ] مهران، وهو المكتب، حدثنا قال مجاهد، خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وعدن، عبد الله بن عمر: وآدم، ثم قال لسائر الخلق: كن، فكان. [ ص: 227 ] وقال حدثنا حدثنا موسى بن إسماعيل، أبو عوانة، عن [ ص: 228 ] عن عطاء بن السائب، ميسرة، قال: إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده. [ ص: 229 ] وقال: حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن [ ص: 230 ] زريع، حدثنا عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، [ ص: 231 ] عن أنس، كعب، قال: لم يخلق الله بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، ثم قال لها: تكلمي، قالت: قد أفلح المؤمنون.
[ ص: 232 ] وقد ثبت في الصحيحين موسى يقال له: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده، وفي لفظ: وكتب لك التوراة بيده، وثبت في صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة أن مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده.
وأما الفعل باليد غير الخلق، فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضته الأرض والسموات، وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما؛ كقوله: بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! [ ص: 233 ] أين المتكبرون؟! مسلم: وقوله: يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم يطوي الأرض بيده الأخرى، وفي رواية تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة.
وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق، وقال تعالى: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج 70] .
[ ص: 234 ] وقال تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد 22-23] ثم لم تدل كتابته لذلك على أنه محتاج إلى الكتاب، والكتاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه، فخلقه ما يخلقه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك .