وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما؛ فإن بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المعضى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك. ولا ينفصل منه بعض كما ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من فضلاته، وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف، كما قال الصحابة والتابعون في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه، وأكثر الناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة [ ص: 130 ] والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما، وذلك متفق على نفيه بين المسلمين، اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار؛ فبنو الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ويتبعض وينقسم، آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف.
وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء؛ بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا هو عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء، ولا يمكن أيضا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء، وهذا عندهم نفي الكم والمساحة، وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له؛ إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه.
وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودا مطلقا مجردا عن الصفات والمقادير، وهم في ذلك متناقضون عند [ ص: 131 ] جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفى الصفات كان متناقضا عند جماهير العقلاء، ومن أثبت من الصفاتية الصفات الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية وسائر النفاة والمثبتة كما هو قول ابن كلاب وغيرهما. والأشعري
ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها، وهم متناقضون في ذلك عند هؤلاء.
ولهذا لما صنف كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله: أحمده حمدا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وأبرأ إليه من التجسيم والتشبيه، وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على ما يقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر القاضي أبو يعلى الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك، وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي.
[ ص: 132 ] ولهذا صار في أصحاب وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلا إلى النفي الإمام أحمد كرزق الله التميمي وابن عقيل وغيرهم وإما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجل [ ص: 133 ] وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم، وطوائف آخرون من أصحاب وابن الجوزي وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع، وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي؛ أحمد كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني [ ص: 134 ] والقاضي أبي الحسين وأبي، وإن كانوا يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته.