وأما قول
الرازي: وذكر
أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة، فثبت أن دين عبادة الأصنام
[ ص: 53 ] كالفرع على مذهب المشبهة.
فالكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أنه من العجب أن يذكر عن
أبي معشر ما يذم به عبادة الأوثان وهو الذي اتخذ
أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم في الأمر بعبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم، وقد قيل: إنه صنفه
لأم الملك علاء الدين محمد [ ص: 54 ] ابن تكش أبي جلال الدين وأنها أعطته عليه ألف دينار وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب والتوصل بذلك إلى الرئاسة وغيرها من المآرب وقد ذكر فيه عن
أبي معشر أنه عبد القمر وأن في عبادته ومناجاته من الأسرار والفوائد ما ذكر؛ فمن تكون هذه حاله في الشرك وعبادة الأوثان كيف يصلح أن يذم
nindex.php?page=treesubj&link=28711_29442_28707أهل التوحيد الذين يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئا ولم يعبدوا لا شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ولا وثنا بل يرون الجهاد لهؤلاء المشركين الذين ارتد إليهم
أبو معشر والرازي وغيرهما مدة وإن كانوا قد رجعوا عن هذه الردة إلى الإسلام فإن سرائرهم عند الله، لكن لا نزاع بين المسلمين أن
nindex.php?page=treesubj&link=29433_29426_34133الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان من مسلم، وأن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه كفر وردة إذا كان من مسلم.
[ ص: 55 ] فأهل التوحيد وإخلاص الدين لله تعالى وحده الذين يرون جهاد هؤلاء المشركين ومن ارتد إليهم من أعظم الواجبات وأكبر القربات كيف يصلح أن يعيبهم بعض المرتدين إلى المشركين بأنهم يوافقون المشركين على أصل الشرك وهؤلاء لا يؤمنون بالله وبما أنزل إلى أنبيائه وما أشبه حال هؤلاء بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=59قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلى قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60عن سواء السبيل [المائدة 59-60] فإن هؤلاء النفاة
الجهمية منهم من عبد الطاغوت وأمر بعبادته ثم هؤلاء يعيبون من آمن بالله ورسوله.
يوضح ذلك أن هذا
الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل
تنكلوشا البابلي ومثل
طمطم الهندي ومثل
[ ص: 56 ] ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية، ومعلوم أن الكلدانيين والكشدانيين من أهل
بابل وغيرهم أتباع
[ ص: 57 ] نمرود بن كنعان البابلي وغيره، وأهل
الهند هم أعظم الأمم شركا وهم أعداء
إبراهيم الخليل إمام الحنفاء؛ فكيف يكون أتباع هؤلاء المشركين أعداء
إبراهيم الخليل عليه السلام معيرين بأتباع المشركين لأهل الملة الحنيفية الذين اتبعوا
إبراهيم وآل
إبراهيم في إثبات صفات الله وأسمائه وعبادته؟! فإن هؤلاء
الجهمية ينكرون حقيقة خلة
إبراهيم لله تعالى وتكليمه كما أنكره سلفهم أعداء
الخليل وأعداء
الكليم.
وَأَمَّا قَوْلُ
الرَّازِي: وَذَكَرَ
أَبُو مَعْشَرٍ الْمُنَجِّمُ أَنَّ سَبَبَ إِقْدَامِ النَّاسِ عَلَى اتِّخَاذِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ دِينًا لِأَنْفُسِهِمْ هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ فِي الدَّهْرِ الْأَقْدَمِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْمُشَبِّهَةِ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ نُورٌ عَظِيمٌ، فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ اتَّخَذُوا وَثَنًا هُوَ أَكْبَرُ الْأَوْثَانِ عَلَى صُورَةِ الْإِلَهِ وَأَوْثَانًا أُخْرَى أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ الْوَثَنِ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَوْثَانِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْإِلَهَ وَالْمَلَائِكَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ دِينَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ
[ ص: 53 ] كَالْفَرْعِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُشَبِّهَةِ.
فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّهُ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَذْكُرَ عَنْ
أَبِي مَعْشَرٍ مَا يَذُمُّ بِهِ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَهُوَ الَّذِي اتَّخَذَ
أَبَا مَعْشَرٍ أَحَدَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ اقْتَدَى بِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَمَّا ارْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَمَرَ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ السِّرَّ الْمَكْتُومَ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ صَنَّفَهُ
لِأُمِّ الْمَلِكِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ [ ص: 54 ] ابْنِ تَكْشْ أَبِي جَلَالِ الدِّينِ وَأَنَّهَا أَعْطَتْهُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ وَكَانَ مَقْصُودُهَا مَا فِيهِ مِنَ السِّحْرِ وَالْعَجَائِبِ وَالتَّوَصُّلِ بِذَلِكَ إِلَى الرِّئَاسَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَآرِبِ وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ عَنْ
أَبِي مَعْشَرٍ أَنَّهُ عَبَدَ الْقَمَرَ وَأَنَّ فِي عِبَادَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْفَوَائِدِ مَا ذَكَرَ؛ فَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ حَالَهُ فِي الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَذُمَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28711_29442_28707أَهْلَ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَعْبُدُوا لَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا كَوْكَبًا وَلَا وَثَنًا بَلْ يَرَوْنَ الْجِهَادَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ
أَبُو مَعْشَرٍ وَالرَّازِي وَغَيْرُهُمَا مُدَّةً وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا عَنْ هَذِهِ الرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّ سَرَائِرَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29433_29426_34133الْأَمْرَ بِالشِّرْكِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ إِذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ مَدْحَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ إِذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ.
[ ص: 55 ] فَأَهْلُ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الَّذِينَ يَرَوْنَ جِهَادَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَكْبَرِ الْقُرُبَاتِ كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَعِيبَهُمْ بَعْضُ الْمُرْتَدِّينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَصْلِ الشِّرْكِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَمَا أَشْبَهَ حَالَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=59قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَى قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَةُ 59-60] فَإِنَّ هَؤُلَاءِ النُّفَاةَ
الْجَهْمِيَّةَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَعِيبُونَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
الرَّازِي اعْتَمَدَ فِي الْإِشْرَاكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى مِثْلِ
تَنْكَلُوشَا الْبَابِلِيِّ وَمِثْلِ
طُمْطُمٍ الْهِنْدِيِّ وَمِثْلِ
[ ص: 56 ] ابْنِ وَحْشِيَّةَ أَحَدِ مَرَدَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْكَشْدَانِيِّينَ مِنْ أَهْلِ
بَابِلَ وَغَيْرِهِمْ أَتْبَاعُ
[ ص: 57 ] نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ الْبَابِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَهْلُ
الْهِنْدِ هُمْ أَعْظَمُ الْأُمَمِ شِرْكًا وَهُمْ أَعْدَاءُ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعَيَّرِينَ بِأَتْبَاعِ الْمُشْرِكِينَ لِأَهْلِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ فِي إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَعِبَادَتِهِ؟! فَإِنَّ هَؤُلَاءِ
الْجَهْمِيَّةَ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ خُلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَكْلِيمِهِ كَمَا أَنْكَرَهُ سَلَفُهُمْ أَعْدَاءُ
الْخَلِيلِ وَأَعْدَاءُ
الْكَلِيمِ.