وقالوا رابعا -وهو الوجه الخامس- وهذا معنى قول المتكلمين: إن الأجسام لا تتداخل. ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل [ ص: 368 ] قالوا هذا قريب من جحد الضرورة، ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه؛ ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجساما: كاللون والطعم والريح، وهذه متداخلة في محل واحد. وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في تسميته أجساما. فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد إنه يداخل مثله؛ بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه. وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر -وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل- فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه، وهو حيزه، أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات، وذلك مانع من المحايثة والمداخلة، وإلا فإذا قدر أن كلا من الصفتين عدمي، فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية. إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه، ولا يكونان في حيز واحد؛، بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث يكون هو الآخر،
والمتكلمون قد ذكروا تعليل منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر، فقالت المعتزلة وطائفة من [ ص: 369 ] الصفاتية: المانع منه التحيز، والموجب لهذا الامتناع التحيز، وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته، فما لا يكون متحيزا لا يكون مانعا مما ذكرناه. وقال بعضهم: الموجب لذلك تضاد كونيهما. وعلى هذا فما لا يكون، لا يضاد غيره، والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم، وهو ظاهر. وقال بعضهم: الاستحالة والامتناع لا يعلل. أي هي ثابتة للذات. وعلى هذا فالمعلوم أن ذلك ثابت للذوات المتحيزة، فما لا يكون متحيزا لا تعقل فيه هذه الاستحالة. وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائما بنفسه أن لا يكون مانعا لغيره أن يداخله. وهذا باطل قطعا. وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة. وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائما لنفسه إلا المتحيز.