الوجه الثالث: أن يقولوا: نحن نعلم بالضرورة العقلية أن أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفا. وهذا متفق عليه بين [ ص: 356 ] الصفاتية، ومن نازع في ذلك قيل له: أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف. أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره، إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلا مطلقا لا يتميز بشيء، بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليا مطلقا، بل لا يكون إلا مخصوصا معينا. وإذا كان كذلك فلا يعنى بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية، كقولنا: [ ص: 357 ] الموجود: [إما ] قائم بنفسه وإما قائم بغيره، وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وإما متحيز وإما قائم بمتحيز وحي وقادر ونحو ذلك، وبمثل ما علمنا هذا نعلم أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورا تاما حصل له حينئذ العلم البديهي الضروري الفطري؛ فإن "العلم البديهي" يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيا في التصديق به، فعدم التصديق به كثيرا ما يكون لعدم التصور [ ص: 358 ] الصحيح للطرفين، وهذه العبارات المجملة قد لا يتصور أكثر الناس مراد أهل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناه ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا، كل ذلك فطري؛ ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة. أما الموجود: إما أن يكون موصوفا، وإما أن يكون صفة، وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق، وهو لا يتعين ولا يتخصص، ولا كذا، ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تتميز بها لزم أن يكون جسما متحيزا داخل العالم أو خارجه، وهم قد يسلمون نفي ذلك، فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيما وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا؛ لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج، وجميع العقلاء [ ص: 359 ] يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج، ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان، وهؤلاء أيضا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية. النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة
ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر، وعلموا من أين دخل الداخل على من كانوا عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان، ومن كان حاذقا في هذه الأمور منهم يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول؛ ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة، وهذا لا يحصل إلا بالرياضة والمجاهدة [ ص: 360 ] والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية .
وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا -وكان مهتما في ذلك- وطلب مني ألا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وقال: أنا لا أقول إنها خبر والخبر محتمل، لكن أمور أخرى، وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه، وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له، وإن كان ذلك ما يثبته كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل، وجعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر المؤمنين عند التنازع في ظلمات و لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك وقال فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج: 46 ]، كما قال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها [الحج: 46 ] ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل، وذم من لا يعقل مثل ذلك، ويعمى عن الحق المعقول. فقلت له: لا نزاع في أنه قد [ ص: 361 ] سواء كان للأنبياء فقط، أو للأنبياء والأولياء، أو لهم ولغيرهم؛ لكن يجب الفرق بين ما يقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته، بين ما لا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه، بين محارات العقول ومحالات العقول؛ فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول -وهو ما تعجز العقول عن معرفته- ولا يخبرون بمحالات العقول -وهو ما يعلم العقل استحالته- قلت: وهذا بين واضح، فلو قال قائل: إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين، وأن الواجب لذاته يكون ممتنعا لذاته، وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة، وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب، ولا وجود قديم، ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها، فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخبر عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة. [ ص: 362 ] فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل. وبه يتبين زيف هؤلاء، فلما تقرر هذا بينت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون [في ] الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق، وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج، وكان عارفا بهذه العلوم، وبينت له ما تستلزم أقوالهم من الجموع الكثيرة بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببدائه العقول، وما كان كذلك فإذا ادعى المدعي أنه عرفه كشفا وشهودا وذوقا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة، وذلك أنه لا بد من أحد أمرين: إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان، كما يقع لكثير من الناس، ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج، وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج، وكثيرا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج. وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن أنه الخالق، وإنما هو مخلوق ليس هو [ ص: 363 ] الخالق؛ فكل شهود وذوق وكشف يدعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله، وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع -فإنه يكون المشهود به إما في الذهن، وإما في الخارج، ولكن ليس هو الله، ولا هو ما يقال: ذاته هو وجوده. وبسط الكلام في هذا له موضع آخر. يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة ما لا يحصل بمجرد العقل،
فإن المؤسس وأمثاله، وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل، وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة، وفي الإقرار بثبوت ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة؛ لكن هو وأمثاله [ ص: 364 ] لا يقولون بهذا، ويسلمون أنه ليس وجودا مطلقا، بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عمن سواه.
ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة، فالمثبتة [يعلمون ] بصريح العقل امتناع أن يكون موجودا معينا مخصوصا قائما بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه -وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز- كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال: إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره؛ فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه؛ ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم، فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.