قال: (وثالثها: أنا ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك ). لا نعلم فاعلا يفعل بعد ما لم يكن فاعلا إلا لتغير حالة وتبدل صفة،
يقال: هذه الوجوه التي أوردها هنا هي من حجج الدهرية: إما القائلين بقدم العالم، وإما المنكرين للصانع [ ص: 290 ] حيث يحتجون بها على امتناع إبداع كل شيء بعد العدم، ويوجبون قدم مادة، وكذلك يوجبون قدم مدة، وكذلك يقولون يمتنع ولا علم ولا غير ذلك من أسباب الفعل، وهذه حجج حدوث الفعل بدون حدوث قدرة ولا إرادة الدهرية المتفلسفة المشائين المنتسبين إلى معلمهم الأول "أرسطو" وإن كان من معظميه من يزعم أنه لم يكن قائلا بقدم العالم، ولكن تكلم بكلام مجمل في ذلك، كما زعمه بعض الفلاسفة اليهود فيما جمعه وألفه بين فلسفته وبين الملة التي بعث الله بها الرسل. فالمقصود هنا أن نعرف أصل هذا الكلام، ونعلم أن [ ص: 291 ] هذا الرازي وإن أورده هنا من جهة أصحابه المسلمين الموافقين على حدوث العالم في احتجاجهم على إخوان لهم مسلمين في مسائل الصفات، فإن هذه الحجج هو دائما يذكرها في معارضة حجج المسلمين وسائر أهل الملل على نفي فتارة يظهر منه التحير وتكافؤ الأدلة وتقابل الطائفتين، بمنزلة المنافق المذبذب الذي لا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. وتارة ينصر المسلمين بما يصلح من الجدل، ويكثر مما لا يصلح. وتارة يؤيد أقوال أولئك المشركين الصابئين المبدلين تأييد عاجز عنهم أو معاون لهم أو معترض عليهم بحق أو بباطل. قدم العالم:
ونحن في هذا المقام -الذي غرضه أن يقرر ثبوت ما يعلم امتناعه بالبديهة، ويزعم أن هذا من حكم الحس والخيال المردود، واحتجاجه بما ذكره من أفعال الله تعالى نجيب عنه بأن نبين: أنا شهدنا من أفعال الله تعالى ما هو نظير ما لم نشهده أو أبلغ منه، وأن ما تعجب منه هو مثل ما شهدناه أو دونه، وبأن [ ص: 292 ] نبين أنه إذا ثبت من أفعال الله تعالى ما لم نشهد نظيره فلا محذور في ذلك؛ فإن وبأن نبين أن الحس والعقل في ذلك سواء، فلا يثبت ما يعلم بهما عدمه، ويثبت ما لم يعلم بهما نظيره. وقد ذكرنا ذلك في المادة، والمدة. ثبوت ما لا نعلم له نظيرا ليس بمحذور في حس ولا عقل،
ونصوص المسلمين، وسائر أهل الملل، ومعارضتهم لهؤلاء الدهرية كثيرة حسنة، لكن ليس هذا موضعها.
وكذلك ما ذكروه في الفاعل، وهي حجة -أفضل متأخري هؤلاء ابن سينا الدهرية - فإنها هي التي اعتمدها حيث زعم أن والكلام في ذلك الأمر كالكلام في [ ص: 293 ] الأول، فيمتنع الحدوث، فيجب القدم. ثم ذكر في كيفية صدور [ ص: 294 ] العالم: بصدور العقل، ثم العقل، والنفس، والفلك من الكلام ما لا يرتضيه أسخف الناس عقلا، ولا يستحسن أحد أن يستعمله إلا في المضاحك والهزليات، دون ما هو من أعظم الأمور الإلهيات، وذكروا لهم ما اختص به العالم من المقادير والصفات وغير ذلك، وما الموجب لتخصيصه بذلك دون غيرها، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه. إذ الغرض جواب ما ذكره الذات الواحدة لا يصدر عنها شيء بعد أن لم يكن صادرا إلا بحدوث أمر من الأمور، الرازي وهو من نمط الذي قبله أيضا بوجوه: أحدها أن غاية ما يذكره إثبات فاعل ليس له نظير، وثبوت فعل ليس له نظير، وهذا لا نزاع فيه؛ وليس ذلك ممتنعا لا في حس ولا خيال ولا عقل حتى يكون نظيرا لمورد النزاع، وكون ذلك على خلاف حكم الحس والخيال هو مثل كونه على خلاف حكم العقل والقياس.
الوجه الثاني: أن الانتهاء إلى فاعل لا فاعل له مما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية، كما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية امتناع حدوث فعل بلا فاعل، وكما قالوه في امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإذا كان هذا مما يعلم بالضرورة الفطرية كيف يجعل معارضا أيضا لما يعلم بالضرورة الفطرية؟ [ ص: 295 ] فالفطرة الضرورية تعلم امتناع أن يكون لكل فاعل فاعلا، وامتناع أن يكون الفعل بلا فاعل، وأن يكون الفاعل لا داخل المفعول القائم بنفسه ولا خارجه. وإذا كان كذلك فتمثيل الفاعل الذي لا فاعل له بالفاعل الذي له فاعل ممتنع أيضا في الفطرة الضرورية.
الوجه الثالث: أن قوله: "لم نشهد فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا إلا تغير حالة وتبدل صفة" إن أراد به استحالته من حال إلى حال بحيث إن ذاته تستحيل فليس الأمر كذلك، فإن الشمس والقمر والكواكب كل في فلك يسبحون ومع هذا لم يتغير حالها ولم تتبدل صفاتها.
وإن عنى به أن نفس الحركة هو تغير وتبدل -كما يقوله من يقوله من المتكلمين - كان المعنى لم نشهد فاعلا إلا متحركا ومتحولا: إما حركة روحانية وإما حركة جسمانية. فقوله بعد ذلك: "ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم من غير شيء من ذلك" مما ينازعه فيه خصومه هنا وغير خصومه؛ فإن /المتكلمين يسمون هذه وقد علم أن مذهب "مسألة حلول الحوادث بذاته" الكرامية القول [ ص: 296 ] بها وهم خصومه في هذه المسألة، وقد ذكر في أعظم كتبه "نهاية العقول" أنه ليس في هذه المسألة دليل عقلي على النفي؛ فلا يمكنه أن يقيم عليهم فيها دليلا عقليا؛ وغاية ما اعتصم فيها بما ادعاه من الإجماع على أنه سبحانه وتعالى غير موصوف بالنقائص، وأن الحادث إن كان صفة كمال فقد كان قبل ذلك ناقصا وإن لم يكن صفة كمال فالإجماع منعقد على وقد تكلمنا على ما ذكر في غير هذا الموضع وإذا لم يكن في ذلك دليل عقلي لم يصلح أن يكون ذلك معارضا لما يقول المنازع إنه معلوم بالفطرة الضرورية. أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال