أحدها: أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتا، وانقلاب النبات جزء بدن حيوان، فأما حدوث الذوات ابتداء من غير سبق مادة وطينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة، ولا يقضي بجوازه وهمنا وخيالنا، مع أنا [ ص: 266 ] سلمنا أنه [تعالى ] هو المحدث للذوات ابتداء من غير سبق مادة وطينة )
قلت: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: قوله: "لم نشهد إلا تغير الصفات" ليس هذا مخاطبة باللغة المعروفة والاصطلاح المشهور؛ بل هذا يفهم معنى فاسدا لا يقوله أحد؛ وذلك أن الصفة في الاصطلاح المشهور هي عرض يقوم بجوهر قائم بنفسه كقيام اللون والطعم والريح بالجسم، فإذا قال القائل: لم نشاهد إلا تغير الصفات كان مقتضاه أن الجواهر والأجسام لا تتبدل ولا تستحيل ولا تنقلب، وإنما تتغير أعراضها القائمة بها مثل تغير الشمس والقمر والنجوم بحركاتها، ومعلوم أن هذا باطل؛ بل نفس الجواهر التي هي أعيان قائمة بنفسها تنقلب وتتبدل وتستحيل، كما ذكره من انقلاب الماء والتراب نباتا فلم يكن التغير في مجرد أعراض الماء والتراب. وإنما ذلك مثل أن ينقل من موضع إلى موضع أو يجمع ويفرق أو يسخن ويبرد ونحو ذلك. فأما إذا صار الماء والتراب نباتا فقد انقلبت الحقيقة وتبدلت، وكذلك إذا صار المني حيوانا؛ والبيضة طيرا؛ وكذلك إذا صار النبات المأكول دما ثم عظما ولحما وعرقا ونحو ذلك. فلا يقال في مثل: هذا لم نشهد إلا تغير الصفة، بل شهدنا تبدل الحقيقة وتغير الأعيان القائمة بنفسها التي هي جواهر بمعنى استحالتها وانتقالها من حقيقة إلى حقيقة في ذاتها [ ص: 267 ] وقدرها ووصفها، وسائر الأمور.
لكن لم نشهد تكون شيء إلا من شيء. فهذا حق كما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز، كما قال: خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار. [الرحمن: 14، 15 ]. وقال: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [المؤمنون: 12، 13، 14 ]. وقال تعالى: وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة [البقرة: 164 ]. وقال: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [الأعراف: 57 ]. وقال: والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا [نوح: 17، 18 ]. وقال تعالى: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها [هود: 61 ]. وقال تعالى: والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها [النازعات: 30، 31 ]. وقال تعالى: والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل [ ص: 268 ] عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ق: 7 - 11 ]، وهذا في كتاب الله تعالى كثير يبين خلق الأشياء بعضها من بعض، وببعض، وفي بعض.
ويقررنا أنا نرى ذلك ونشهده كقوله تعالى: أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون إلى قوله أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [يس: 71 - 77 ]. وقال تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم [الحج: 5 ].
وقال تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [الغاشية: 17 - 20 ]. وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك [البقرة: 260 ].