[ ص: 134 ] ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن وأن خلاصة ما يذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض ما بينه القرآن والحديث، مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف، واشتماله على ما تقصر عنه نهايات عقولهم، وما لا يطمعون أن يكون من مدلولهم. وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة، فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هو أولى وأحرى القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الإحكام ونهاية التمام، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا [الأحزاب: 58 ] وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا [ ص: 135 ] معكم إنما نحن مستهزئون [البقرة: 13 - 14 ]. وقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين [المطففين: 29 - 31 ]، فإن الله سبحانه ضمن كتابه العزيز فيما أخبر به عن نفسه وأسمائه وأفعاله من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما يبين ثبوت المخبر بالعقل الصريح، كما يخاطب أولي الألباب، والنهى، والحجر، ومن يعقل، ويسمع، بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد ما نبه عليه في غير موضع كقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط [فصلت: 53 - 54 ] فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون: إن الله تعالى إنما يعرف بوجوده بمجرد خبر الشارع المجرد؟ !
وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك أو [ ص: 136 ] ينهون عن الكلام، أو عما يسمى معقولات ونظرا، وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل، وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة، كما ذكره هذا الرجل، ولا ريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك.
فيقال: من الوجوه الصحيحة أن ما نطق به الكتاب وبينه، أو ثبت بالسنة الصحيحة، أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرا أو كلاما وبرهانا وقياسا عقليا أصلا؛ بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما. وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد؛ بل يعلمه بعض الناس دون بعض، وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام: 112 ] فأعداء النبيين دائما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
[ ص: 137 ] وكذاك من الوجوه الصحيحة أن وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله، وذلك أن أقوى العقول متفاوتة مختلفة، وكثيرا ما يشتبه المجهول بالمعقول، فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله، وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء، والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى؛ ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك [هود: 118 - 119 ] وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن.
ومن الوجوه الصحيحة أن إما بخبره، وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية؛ ولهذا يقولون: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [الصافات: 180 - 182 ] [ ص: 138 ] ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى "الأشعرية" . قد بين في رسالته إلى وأبو الحسن الأشعري أهل الثغر بباب الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة، وأنها [ ص: 139 ] ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم، بل هي محرمة عندهم، كما سنذكر ذلك عنه، وكذلك ذكر غير واحد من متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبد الله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية، وبين غلط أبي المعالي في قوله: (اعلم أن أول ما يجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم ). وبين أن فضلا عن أن لا يكون طريقا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره، وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق، وكذلك العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع، قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق. الغزالي
[ ص: 140 ] وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك، ولا يوجبونها، بل إما أن يحرموها، أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها، ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها.
ثم هم قسمان: قسم يسوغها ويسوغ غيرها ويعدها طريقا من الطرق. فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم. والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها، ويعيبون سلوكها، وينهون عنها: إما نهي تنزيه، وإما نهي تحريم، كما ذكره في رسالته كما سنذكره عنه، كما ذكر ذلك طوائف ممن لا يبطل تلك الطريقة أبو الحسن الأشعري كأبي سليمان الخطابي ونحوه: