ثم قال الحفيد: (وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له أمثالا، وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل، وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء؛ وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس [ ص: 91 ] بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها حيلة وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط، وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا: إن هاهنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله. فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة، وهنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة، ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول، ولذلك السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء "أعتقها فإنها مؤمنة" [ ص: 92 ] إذ كانت ليست من أهل البرهان، والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قبل التخييل أعني أنهم لا يصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبا إلى شيء متخيل، ويدخل أيضا على من لا يفهم من هذه النسبة إلا المكان، وهم الذين شذوا عن رتبة الصنف الأول قليلا في النظر باعتقاد الجسمية؛ ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من [ ص: 93 ] المتشابهات، وأن الوقف في قوله تعالى: قال عليه السلام في وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7 ] وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله ).
قلت: الذين سماهم "أهل البرهان" هنا هم من عيناه من الجهمية والدهرية. وقد تناقض في هذا الكلام؛ فإنه قد تقدم ما ذكره في "كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية" ولفظه: (وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ) وما ذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مساكن للروحانيين -يريدون الله والملائكة- وقوله (قد [ ص: 94 ] ظهر لك من هذا أن واجب بالشرع والعقل ) وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك، وأن يكون قول الجارية إثبات الجهة مما يجب على أهل البرهان تأويله؟ ! "إنه في السماء"
ثم يقال له: فإن قلت: لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله. فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علما وإيمانا من هؤلاء، وإن قلت: كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لم يؤولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون؛ بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش، كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك. وكلامهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا. فكيف يكون واجبا؟ ! هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا؟ !
وأيضا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت؛ فإن تأويل ذلك إما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من [ ص: 95 ] يجري مجراهم، وهؤلاء عندك أهل جدل لا أهل برهان، وأنت دائما تصفهم بمخالفة الشرع والعقل.
وإن قلت: نحن أهل برهان -وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام- فهذا أكذب الدعاوى؛ وذلك أنه لا ريب عند من عرف المقالات وأسبابها أن هو ما شاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد، وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء، فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة، وعقلاؤهم متفقون أيضا على أنهم فيما قالوا من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان، فكيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين؟ ! والمتكلمون لا يقرون على أنفسهم بمثل هذا، بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة [ ص: 96 ] العقلية، وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه، وليس يلزم من كونهم أهل برهان في علم الحساب والطب والهندسة أن يكونوا أهل برهان في معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما أنه لا يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كليهما صناعة حسية؛ وكثيرا ما يحذق الرجل فيهما، ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر. الذي صار به المتكلمون مذمومين
ثم يقال له: هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان، فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه، فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول: من ربك؟ ومن إلهك؟ ومن تعبدين؟ فتقول: الله تعالى. فلم يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل؟ ! ثم يكلفها مع ذلك تصديق الباطل، ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل؟ ! فهل هذا فعل عاقل، فضلا عن أن يكون هذا فعل الرسل، أم من فعل الكاذبين في خبرهم، الموجبين للتصديق بالكذب؟ ! ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به [ ص: 97 ] عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا، وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا، ثم مع هذا كله لا يبين من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولا يبين ما هو مراده به الذي خالف ظاهره؛ بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب؟ ! وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف إنما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم، ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضل الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن هذا في الإضلال والتفريق بين الناس أعظم وأعظم، وإضلال الخاصة والتفريق بينهم أعظم من إضلال العامة والتفريق بينهم؛ فالذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه، وقد قال تعالى للرسل: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [الشورى: 13 ]. وقال: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء: 92 ]. وقال: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [الأنعام: 159 ]. وقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته [ ص: 98 ] ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إلى قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [آل عمران: 102 - 105 ]. وقال: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة [البينة: 4 ] وعلى ما زعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة؛ لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرا يجب على أهل البرهان تأويله، وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم [آل عمران: 7 ] ثم يقول: (وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المؤول فقد يختلفون في تأويله، وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان ). فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة، فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون.