وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في "مسألة المبدأ والمعاد" نظير ما ادعاه هو في "مسائل الصفات والقدر" كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه، كما ذكر هذا أيضا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ما سيأتي حكايته عنهم حيث بين تقارب الطائفتين، ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع -إلى قوله- (فكيف: يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه، والظاهر الذي [ ص: 80 ] قلناه من الشرع في قد قال به فرقة من الحكماء ). قال: (ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة: إما مصيبين مأجورين، وإما مخطئين معذورين، فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري: أعني أنه ليس لنا أن لا نصدق أو نصدق كما أن لنا أن نقوم أو لا نقوم، وإذا كان من شرط التكليف الاختيار، فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور، ولذلك قال عليه السلام: وجود العالم وأي حاكم [ ص: 81 ] أعظم من الذي يحكم على الموجود أنه كذا أو ليس بكذا، وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله –تعالى- بالتأويل، وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها. وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو إثم محض وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية، فكما أن "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، لم يكن معذورا كذلك الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم فليس بمعذور، بل هو إما آثم وإما كافر، وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب [ ص: 82 ] الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس فبالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات، أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها. الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم
وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في [الطب، والحاكم الماهر إذا أخطأ في ] الحكم، ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن. وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس، بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في فيما بعد المبادئ فهو بدعة، وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها، فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع، وهذا مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من [ ص: 83 ] الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته -أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية- فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها؛ لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان، وإن كان من أهل الجدل فبالجدل، وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة؛ ولهذا قال عليه السلام: يريد بأي طريق [ ص: 84 ] اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاث ). "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي"
قلت: وهذا الكلام فيه أشياء جيدة، وفيه مقاصد غير صحيحة؛ لكن هذا ليس موضع الكلام عليه.