وأيضا: فقد قلتم: إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد، فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث؟ !.
وفي الجملة فأنتم بين أمرين: إما أن تنكروا القصد والإرادة -وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزاما لكم- وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع ما بنيتموه على إنكار ذلك. وجميع ما يخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك، وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن صانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة، كما ينهار ما أسس على شفا جرف هار فلا ريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم، فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون: كـ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن [ ص: 27 ] أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم [التوبة: 107-110 ].
ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب "مناهج الأدلة في الرد على الأصولية" (وأما فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة [ ص: 28 ] بإرادة قديمة: فبدعة وشيء لا يعلمه العلماء، ولا يقنع الجمهور -أعني الذين بلغوا رتبة الجدل- بل ينبغي أن يقال: إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى: صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها إذ كان من شروط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدا له، وكذلك من شرطه أن يكون قادرا. إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل: 40 ] فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث ).
قلت: وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب، وبالجملة فهو لازم لهم، وهو يبطل القول بقدوم الأفلاك، ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين؛ فإنه إنما أطمعه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل، وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر، وأن القول به لازم لجميع الطوائف، وذلك أن هذا الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض التي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل، والحق منه لا يمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات، ثم قال: [ ص: 29 ] (وأما "الطريقة الثانية" فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة "بالنظامية" ومبناها على مقدمتين: [ ص: 30 ] إحداهما: أن حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو، وأكبر مما هو، أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه، أو عدد أجسامه غير العدد التي هي عليه، أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار إلى أسفل، وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية، وفي الغربية أن تكون شرقية. العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه،
والمقدمة الثانية: أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر. فأما المقدمة الأولى فهي خطبية في بادئ الرأي، وهي إما في [ ص: 31 ] بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه، مثل كون الإنسان موجودا على خلقة غير هذه الخلقة التي هو عليها، وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية، إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه، إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها، أو تكون من العلل الخفية على الإنسان، ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع، وذلك أن الذي هذا شأنه إن سبق إلى ظنه أن ذلك في تلك المصنوعات أو كلها يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه، ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله، أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة، وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك، وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري، أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم [ ص: 32 ] يكن ضروريا فيه، وهذا هو معنى الصناعة. والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع، فسبحان الخلاق العليم.
فهذه المقدمة من جهة أنها خطبية قد تصلح لإقناع الجميع، ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم، وإنما صارت مبطلة للحكمة؛ لأن وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره، كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا، ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع، وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تأتي بأي عضو اتفق، أو بغير عضو، حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن، كما يتأتى بالعين، والشم يتأتى بالعين، كما يتأتى [ ص: 33 ] بالأنف. وهذا كله إبطال للحكمة، وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك ). الحكمة ليست شيئا أكثر من معرفة أسباب الشيء،