وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه. وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب. من أعرض عن هدى الله علما وعملا، فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب،
وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه -وكفى به شهيدا- قد يرى العباد آيته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة -التي هي أصل العلوم الضرورية والنظرية القياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق- فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية، من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، والمخالفون لهذا مخالفون لهذا، وإن ادعوا في الأول من [ ص: 457 ] الأقيسة العقلية، وفي الثاني من التأويلات السمعية، ما إذا تأمله اللبيب، وجد مآلهم في تلك الأقيسة العقلية، إلى السفسطة، التي هي: جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس، ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة؛ التي هي: تحريف الكلم عن مواضعه، وإفساد الشرع واللغة والعقل، بالتمويه والتلبيس، وهذا أيضا سفسطة في الشرعيات، وسمي قرمطة؛ لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر، ودعوى التأويلات الباطنة، المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة، والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين، لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة؛ التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق، وكان لا بد لهم من النفاق، كان تنبيه من نبه من الأئمة، كمالك وأحمد وأبي يوسف وغيرهم، على أن كلام هؤلاء جهل، وأن مآله إلى الزندقة: كقول أحمد: وقول علماء الكلام زنادقة، ويروى عن أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، [ ص: 458 ] ومن طلب غريب الحديث كذب، وقول مالك: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. الشافعي:
ولما كان الرد إلى ما جاءت به الرسل، يؤول بأصحابه إلى الهدى والصلاح، قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59].