الوجه الثاني: وهو أن يقال: معلوم أن كل طائفة من الطوائف المنازعين في مسائل الأصول مثل الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والمتفلسفة وغيرهم، تدعي كل طائفة أن العقل يدل على صحة قولها، وأن ذلك أدلة قطعية. [ ص: 446 ]
وهذا موجود في كتبهم وكلامهم، ويعرفه من له أدنى معرفة في هذا الشأن.
وإذا كان كذلك فما ذكره من الفرقان لا يزيل ما ذكره من النزاع، بل كل ما ذكره من المقرر لما أنكره من أن كل طائفة تجعل المحكم ما وافقها، والمتشابه ما وافق خصمها.
وقد رأينا الكتب المصنفة في ذلك، ففي كتب القدرية النافية من المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة دعوى أن الأدلة العقلية توجب أن العبد هو المحدث لفعله، وقد يدعون على ذلك العلم الضروري كما ادعاه أبو الحسين، ثم إثبات الصانع عندهم مبني على هذا، فإنه به يعلم افتقار الفعل إلى الفاعل، ومن لم يعلم هذا لم يعلم افتقار الفعل إلى الفاعل.
وكذلك ما يثبتونه من التعديل والتجوير، وهو مبني عندهم على ما يقولون: إنه معلوم بالاضطرار من مسائل التحسين والتقبيح، فما وافق هذا عندهم فهو محكم، وما خالفه فهو متشابه. [ ص: 447 ]
والقدرية المجبرة أتباع يقولون: بل المعلوم بصريح العقل أن الله خلق كل شيء، وأنه لا يجوز أن يكون غير الله محدثا لشيء، وأن الحسن والقبح إنما يعقل في حق من ينتفع بشيء ويتضرر بشيء، والرب تعالى منزه عن ذلك، فيجوز عليه فعل كل شيء، وهذا عندهم هو الأصل المعلوم بصريح العقل، وما وافقه محكم، وما خالفه متشابه. الجهم بن صفوان
والرازي يعتمد في تفسيره على هذا في الجواب عما يحتج به المنازعون من الآيات الكثيرة التي يحتج بها القاضي عبد الجبار وغيره، فيجيب بمسألة الداعي والعلم، وهو أن الله [ ص: 448 ] خلق داعي العبد، فيكون خالقا لفعله، وأنه يعلم ما سيكون، فيمتنع خلاف المعلوم، وعلى هذا تبطل حجة المعتزلة، لأن عندهم يمتنع التكليف بالممتنع وما هو من فعل الغير.
وحقيقة الأمر أن هذا الجواب جدلي التزامي، ليس بجواب علمي، فإن ويقولون: إن الأفعال مشتملة على صفات كانت لأجلها حسنة وسيئة كما هو مبسوط في موضعه، والمقصود هنا أن ما ذكره من القانون يدعيه كل طائفة، فهو حجة لما أنكره عليهم، لا رافع لما أنكره. عامة أهل السنة يقرون بهذا، وهو أن الله خالق أفعال العباد، ويقولون مع هذا: إن الله يخلق بحكمة ولسبب، وأنه منزه عن أن يعاقب أحدا بلا ذنب وغير ذلك من الظلم،