وقد أخبر الله تعالى أنه أحكم آياته، وأنها مبينة، وأنها هدى، وأنها نور. وهذا إنما يكون إذا كانت مبينة لما أراده وعناه، وأما إذا كان لا فرق فيها بين المراد وغيره لا يدل على واحد [ ص: 405 ] منهما، لم تكن مبينة ولا هادية ولا محكمة ولا نورا، وهذا كلفظ القرء الذي مثل به.
إن قيل: إنه يستعمل في الحيض وفي الطهر، ففي الآية ما يبين المراد من وجوه متعددة، والأمة متفقة على هذا، لم يقل أحد منهم بتكافؤ دليل هذا وهذا، بل منهم من رجح دليل هذا، ومنهم من رجح دليل هذا، فاتفقوا على أن الشارع نصب الدليل المبين للمراد، لكن إحدى الطائفتين عرفته، والأخرى لم تعرفه، وظنت الآخر هو المراد، وهذا لا يكون إلا لدليل صحيح، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على الحق المراد، لكن يكون الدليل الصحيح خفي عنها، إما عجزا، وإما تفريطا، فظنت ما ليس بدليل دليلا.
وإن قال: بل التوقف والاستواء في نفس الأمر لانتفاء الدلالة على أحدهما في نفس الأمر، أو لتكافؤ الدليلين.
يقال: هذا ممنوع، فلم قلت: إن الأمر كذلك؟ ومعلوم أن توقف الذهن قد يكون لقصوره أو لتقصيره، وقد يكون لعدم [ ص: 406 ] بيان الدليل وعدم بيان المتكلم لمراده، فلم أحلت عدم العلم لنقص بيان القرآن دون أن تحيله على نقص فهم الأذهان؟ مع أن الله تعالى وصفه بأنه مبين ومحكم وهدى ونور، وغير ذلك من الأسماء التي تدل على أنه تعالى قد بين به المراد، ودل به العباد، وهدى به إلى الرشاد.
وأيضا فنحن قد رأينا أكثر الناس يتوقفون في فهم آية، أو يفهمون منها خلاف ما دلت عليه؛ لقصورهم أو تقصيرهم، كما يصيبهم ذلك في الأدلة العقلية وفي كلام العلماء. فهذا ضرب من الاشتباه واقع كثيرا.
وأما وجود آية اشتبه فيها المراد بغيره، ولم يبينوا فيها ذلك البتة، فهذا مما يمتنع وجوده، ولم يقدر أحد أن يقيم دليلا على وجوده، بل كل ما ادعاه إن ذكرنا أنه قد بين المراد به، اندفع السؤال، وإن عجزنا عن ذلك أمكن أن يكون من القسم المشتبه، وعدم معرفة المراد لقصورنا، لا لقصور في بيان الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
[ ص: 407 ] وكما قيل:علي نحت القوافي من أماكنها وما علي بأن لا تفهم البقر
فقوله: اتبعوا ما بين لكم، أي ما تبين لكم، وإلا فالله تعالى قد بينه كله، لكن قد يخفى بعض ما فيه على بعض الناس، وعمر خفي عليه الأب، كما خفي عليه الكلالة، [ ص: 410 ] [ ص: 411 ] وقد عرفه غيره من الصحابة ومن بعدهم، كما رواه وغيره، عن ابن أبي حاتم عاصم بن كليب، عن أبيه، عن قال: "الأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس"، وفي رواية ابن عباس عكرمة عنه قال: "الأب الحشيش [ ص: 412 ] للبهائم"، وكذلك عن سعيد بن جبير وأبي مالك قالوا: "الأب الكلأ"، قال مجاهد: "الفاكهة ما يأكل الناس"، وعن ومجاهد عطاء قال: "كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب"، وعن الضحاك: "كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة".
وذكره غيره عن عكرمة قال: "الفاكهة ما يأكل الناس، والأب ما يأكل البهائم"، ومثله عن قال: "الفاكهة لكم، [ ص: 413 ] والأب لأنعامكم". قتادة
وهذا قول اللغويين قاطبة، قالوا: "الأب المرعى"، قال الجوهري وغيره: "الأب المرعى"
وقال "هو جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية"، وعلى قول الضحاك قد يقال إنه يدخل فيه سائر النبات غير الفاكهة، وبعضهم يقول: "ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس والأنعام"، والأول هو المعروف عند جمهور السلف وأهل اللغة. الزجاج: