قال: الوجه الثاني: أن المقصود من الكلام الإفهام، ولو لم يكن مفهوما لكان عبثا.
قلت: بل هذا أقبح من العبث، فإن الإنسان قد يعبث بأفعال يستريح بها ويلهو بها، وأما خطاب الناس بكلام لا سبيل لأحد إلى معرفة معناه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء ألبتة، بل هو مثل [ ص: 244 ] مستقبح باتفاق العقلاء، والله تعالى وراء تنزيهه عن مثل ذلك، ولكن هذا الوجه والذي قبله لا يصح من مثل هذا الرازي الاحتجاج بمثلها، فإنه وأصحابه ينصرون قول الجهمية المجبرة الذين لا ينزهون الرب عن فعل ممكن، بل يجوزون عليه فعل كل مقدور، ومن المقدور أن يخلق أصواتا مؤلفة من جنس الكلام، ولا يكون لها معنى، أو يكون لها معنى لا يعلمه غيره.
والرازي ذكر في محصوله مسألة الأحكام، أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا، خلافا للحشوية، ثم احتج بأن ذلك عبث، والله تعالى منزه عن ذلك، وهذا النقل والاستدلال ضعيفان، فإنا لا نعلم أحدا من الطوائف قال: إن الله تعالى يجوز أن يتكلم بكلام لا يعني به شيئا، وإنما قال من قال: إنه [ ص: 245 ] لا يفهم الناس معناه، وإن كان قد عنى به هو معنى.
فهذا القول الذي حكاه عن الحشوية لا يعرف به قائل معين يحكى عنه، وسواء عرف أو لم يعرف، فالحجة التي ذكرها ضعيفة على أصله، فإن النزاع إنما هو في الكلام المؤلف من الحروف، وهذا عنده مخلوق، وهو يجوز أن يخلق كل شيء لا لحكمة، وإن كان هذا مما يعده العقلاء عبثا، فعنده لا ينزه مثل ذلك، فكانت الحجة ضعيفة على أصله، ولكن العبث على الله ممتنع، وأصله المنفي لذلك باطل كما قد بسط في موضعه. [ ص: 246 ]