ثم وهذه مغلطة، فإنه يقال: التضاد والمنع والتنافي الذي [ ص: 160 ] لا يصح إلا بين عرضين لا يكون بين جسم وعرض، هو المنع من اجتماعهما في محل واحد، أو هو المنع من اجتماعهما في الوجود، وإن كانا في محلين فإن قال الأول: فذاك التضاد والمنع، والتنافي الخاص الاصطلاحي، ولم يدع أحد أن لفظ الحجاب في اللغة موضوع بإزاء هذا المعنى الخاص، فإنه من المعلوم أن الجسم يقبل الأعراض لا يمتنع لعموم كونه جسما أن تقوم به الأعراض، وإن كان قد يمتنع لخصوص ذاته من قيام بعض الأعراض به. قالوا: "والتضاد لا يصح إلا في العرضين المتعاقبين، ولا يصح أن يكون الجسم منعا ولا مانعا من عرض أصلا، لأنه لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تناف وتضاد"،
وإن قال: بل مطلق المنع والتضاد ولو في محلين لا يصح أن يكون بين جسم وعرض، قيل: هذا غير مسلم، ولا هو صحيح، فإن منع كثير من الأجسام لكثير من الأعراض كالشم والذوق واللمس أمر محسوس، غاية ما يقال: إن مطلق الجسم لا ينافي مطلق العرض، فإنه يمكن قيامه به، لكن فرق بين عموم النفي ونفي العموم، ففرق بين نفي الإمكان والصحة من جهة خاصة، وبين نفي ذلك مطلقا. [ ص: 161 ]
فقول القائل: لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تناف وتضاد. إن أراد به أن لا يصح، فهذا خلاف للمحسوس، بل أظهر ما للإنسان لباسه الذي يقيه الحر والبرد، وهما عرضان، قال تعالى: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم [النحل: 81] وقاية الحر منعه ودفعه، وإن أراد أن الجسم من جهة كونه جسما لا يمنع وجود العرض فهذا حق، لكن نفي المنع من جهة كونه جسما لا يقتضي انتفاء المنع من جهة كونه جسما، لا سيما وقد بينا أن الأجسام ليست متماثلة، [ ص: 162 ] وأن مسمى الجسم إنما هو القائم بنفسه أو المقدر، أو صفة المقدر، فيكون المعنى أن الأمور القائمة بأنفسها لا تمنع من جهة المقدار قيام الصفات بها، إذ لا منافاة بين المقدار والصفة، وهذا حق، لكن قد تكون المنافاة من جهة خصوص ذات القدر، كما أن العرض من حيث هو عرض لا يمنع مجامعة العرض، كاجتماع اللون والطعم والرائحة في محل واحد، وإنما تقع المنافاة في بعض الأعراض، كاللونين والطعمين، فلا فرق في الحقيقة بين تنافي الأجسام وتنافي الجسم والعرض، إذ المنافاة والمضادة تختص ببعض هذه الأقسام الثلاثة دون بعض بحسب خصوص ذات المتضادين.
وفي الجملة فلفظ المانع والتنافي والتضاد ونحو ذلك، لها في اللغة التي يتخاطب بها الناس معنى أعم مما لها في اصطلاح هؤلاء.
وأيضا فإنهم كثيرا ما يغلطون في أحكام الأجسام [ ص: 163 ] والأعراض، كاعتقاد بعضهم تماثلها أو امتناع بقاء الأعراض وغير ذلك مما ليس هذا موضعه.
فإذا سمع هذه الكلمات من لا يكون عارفا حقيقة معانيها يحسب أنها من القضايا المقبولات، بمنزلة الأخبار الصحيحة، والأحكام المجمع عليها بين المسلمين، ولا يعلم أن النزاع بين الناس فيها عظيم، وغلط هؤلاء فيها جسيم، وأنه عند الاستفصال ينكشف الحال. [ ص: 164 ]