فإذا كان هو وأئمة مشايخه يقولون: إن الله تعالى يدرك الأجسام باللمس، لم يصح أن ينفي مماسته للأجسام، وهذا هو المفهوم من اللقاء على سبيل المجاورة، ولكن دعواه اتفاق الخلائق على عدم قول ذلك -مثل قول المعتزلة الذين ناظرهم في ذلك- معلوم بالضرورة، ثم إنه لم يقبل ذلك منهم وأثبته.
والحكم بينهم له موضع غير هذا، وإنما الغرض نفي ما ادعاه حتى لمذهبه، بل إذا كان قد ذكر عن المعتزلة البصريين أن كون الله عز وجل حيا يقتضي إدراك هذه الأمور بشرط حضورها، يعنون إدراك اللمس وما معه. فكيف بغيرهم، والمعتزلة [ ص: 43 ] البصرية أقرب إلى الإثبات من البغداديين، كان في أول أمره منهم من أصحاب والأشعري شيخهم في وقته، ولعل هذا البحث القياسي إنما أخذه أبي علي الجبائي عنهم. الأشعري
فإذا كان هؤلاء يثبتون بالقياس إدراك اللمس والشم والذوق، فكيف بأصحاب الحديث والآثار، فإنهم أكثر إثباتا، وإن كان النزاع بين أصحاب وغيرهم في ثبوت ذلك. الإمام أحمد
كما على ثلاثة أقوال لأصحاب تنازعوا في كونه على العرش، هل هو بمماسة، أو بغير مماسة وملاصقة، أو لا يثبت ذلك ولا ينتفي، وغيرهم من الطوائف. [ ص: 44 ] أحمد
وكذلك على هذه الأقوال الثلاثة. خلق آدم بيديه، وإمساكه السموات والأرض، ونحو ذلك، هل يتضمن المماسة والملاصقة
وأما السلف وأئمة السنة المشاهير، فلم أعلمهم تنازعوا في ذلك، بل يقرون ذلك كما جاءت به النصوص، ولكن يذكر هذا في موضعه.
وهذا كقول الإمام في نقضه على عثمان بن سعيد الدارمي قال: "ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها، [ ص: 45 ] وعددها في كتابه: من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها، ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف، وشيئا بعد شيء، بحكم المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه، ولا أرشد منه عنده، فاغتنمنا ذلك منه، إذ صرح باسمه، وسلم فيها لحكمه، لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره، وهتك ستره، وافتضاحه في مصره، وفي سائر الأمصار الذين سمعوا بذكره، فروى المعارض عن بشر بن غياث المريسي، قراءة منه بزعمه وبزعم أن بشر المريسي قال له: اروه عني، أنه قال في قول الله تعالى لإبليس: بشرا ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75]. فادعى أن بشرا قال -يعني [ ص: 46 ] الله عز وجل بذلك- أني وليت خلقه، وقوله: بيدي تأكيد للخلق، لا أنه خلقه بيده، قال: فيقال لهذا الجاهل بالله وبآياته: فهل علمت شيئا مما خلق الله ولي خلق ذلك غيره حتى خص آدم من بينهم أنه ولي خلقه من غير مسيس [ ص: 47 ] بيده؟ فسمه، وإلا فمن ادعى أن الله تعالى لم يل خلق المريسي آدم بيده مسيسا لم يخلق ذا روح بيديه، فلذلك خصه به، وفضله، وشرف بذلك ذكره، لولا ذلك ما كانت له فضيلة في ذلك على شيء من خلقه، إذ كلهم بغير مسيس في دعواك.
وأما قولك: (تأكيد للخلق) فلعمري إنه لتأكيد جهلت معناه فقلبته، إنما هو تأكيد اليدين وتحقيقهما وتفسيرهما، حتى يعلم العباد أنها تأكيد مسيس بيد، لما أن الله عز وجل قد خلق كثيرا في السموات والأرض أكبر من آدم وأصغر، وخلق الأنبياء والرسل، فكيف لم يؤكد في خلق شيء منها ما أكد في آدم، إذ كان أمر المخلوقين في معنى يد الله تعالى كمعنى آدم عند المريسي، فإن يك صادقا في دعواه [ ص: 48 ] فليسم شيئا نعرفه، وإلا فإنه الجاحد لآيات الله، المعطل ليدي الله.
قال: وادعى الجاهل أيضا في تفسير التأكيد من المحال، ما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل الضلالة، فقال: هذا تأكيد للخلق، لا لليد، لقول الله تعالى: المريسي فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [البقرة: 196].
فيقال لهذا التائه، الذي سلب الله عقله، وأكثر جهله، نعم هو تأكيد لليدين كما قلنا، لا تأكيد للخلق، كما أن قوله: تلك عشرة كاملة تأكيد العدد، لا تأكيد الصيام، لأن العدد غير الصيام، ويد الله غير آدم، فأكد الله تعالى لآدم الفضيلة التي كرمه وشرفه بها، وآثره على جميع عباده، إذ كل عباده خلقهم بغير مسيس بيد، وخلق آدم بمسيس، فهذه عليك لا [ ص: 49 ] لك. وبسط الكلام في ذلك بسطا ليس هذا موضعه، وذكر فيما ذكره: حدثنا قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، أبو عوانة، عن عن [ ص: 50 ] عطاء بن السائب، ميسرة قال: "إن الله لم يمس من خلقه غير ثلاث؛ خلق آدم [ ص: 51 ] بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده". والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فإن ذلك متعلق بعدة نصوص، وإنما الغرض هنا بيان ما ذكره من الاتفاق.