[ ص: 573 ] فصل
ابن عقيل، ومن وافقه: أن المراد صورة الملك والتدبير، بل ومن الاستيلاء على جنس الحيوان، حتى طائره وسابحه، ما يشبه به استيلاء الرب على العالم بالتدبير والتصريف، بل وعلى [سائر] الأجسام الجامدة. وهذا وإن كان وللناس تأويلات أخر، وكلها باطلة، مثل تأويل ابن عقيل يذكره في موضع فإنه في موضع آخر يتأوله على الصورة المخلوقة، كما تقدم ذلك، فإن هؤلاء لا يثبت أحدهم على مقام، بل هم كثيرو الاضطراب، وما من شيء يقوله المؤسس وأمثاله إلا وقد يقوله ابن عقيل ونحوه، في بعض الأوقات، والمصنفات، وإن كان قد يرجع عن ذلك كما يرجع عن غيره.
[ ص: 574 ] قال في كفايته: "فصل في إضافة الصورة إليه تجوزا، وأنه مصور لكل [صورة] فأما ذاتا فلا يطلق عليه إلا وتحتها معنى، هو عين التخطيط والأشكال، ولعله يقتضيها الحال، مثل قولهم: حدثني صورة أمرك، يريد به حالك، والذي ينفي حقيقة الصورة عنه هو الذي نفاه المشبهة عنه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: آدم على صورته"، "خلق الله لا ينطبق على المثال والشكل، لنص [ ص: 575 ] الكتاب و"رأيت ربي في أحسن صورة" ليس كمثله شيء [الشورى: 11] فمتى جاء خبر واحد وتواتر يثبت له صورة تعارض الكتاب والسنة، وتناقض الدين، والله قد حماه عن المناقضة، وحرسه عن التقابل، والتعارض والاختلاف، فلا بد من الجمع بين قوله: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 11] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: آدم على صورته" فيكون نفي المثال نافيا للصورة التي هي التخطيط والشكل، وإضافة الصورة إلى الله نفي شكل "خلق الله آدم إلى الله على سبيل الملك، كما قال: ونفخت فيه من روحي ، ولم يرد به الروح الذات، وكانت الفائدة في ذلك تشريفها بالإضافة إليه، كتشريف بنية الكعبة بتسميته بيتا له، وإن كان لا يسكنه، كذلك تشريف صورة آدم [ ص: 576 ] بالإضافة إليه، وإن كانت لا تشبهه.
قال: وقوله: يحتمل أن يكون رآه في أحسن صورة، ويحتمل أن يكون في أحسن حال من الإكرام والتبجيل، قال: إنما دعانا إلى ذلك لأن إطلاق الصورة عليه (سبحانه) تصريح بتكذيب القرآن، وكفى بذلك [محوجا] إلى التأويل، وليس هذا مما يمكنا أن نقول فيه: صورة لا كالصور، لأنه عزاها إلى صورة محسوسة، هي صورة "رأيت ربي في أحسن صورة" آدم، فلو كان على صورة الله في نفسه لكان كل [آدمي] على صورة الله، والله سبحانه وتعالى على صورته، وقد أكذب الله من قال ذلك، وأطلقه عليه بقوله سبحانه: ليس كمثله شيء [الشورى: 11]، وآدم شيء، فلا يكون مثلا لله تعالى". وهذا لفظ ابن عقيل، وهو مثل كلام المؤسس ونحوه من الجهمية، وقد تقدم الكلام على هذا.
[ ص: 577 ] وإنما المقصود هنا الكلام على تأويله بصورة الملك والتدبير.
وزاد على هذا طائفة من الاتحادية وغيرهم فقالوا: هو خليفة الله، استخلفه بأن جعل فيه من أسمائه وصفاته ما ضاهى به [الحضرة] الإلهية، وهؤلاء طائفتان:
طائفة تثبت الرب وراء العالم، وتجعل الإنسان خليفة لله.
وطائفة أخرى لا تثبت للرب وجودا غير العالم، بل يجعلونه هو وجود العالم، ويجعلون الإنسان نسخة ذلك الوجود ومختصره، فهو الخليفة الجامع فيه، وهم في هذا يوافقون من يقول من الفلاسفة وغيرهم: أن الإنسان هو العالم الصغير، كما أن العالم هو الإنسان الكبير، إذ الإنسان قد اجتمع فيه ما تفرق.
وهذه المعاني لا يقصد النزاع فيها، ولكن المردود من ذلك قول أحدهم: أن قوله: آدم على صورته" أي: على صورة العالم، فإن الإنسان على صورة العالم، وهي صورة الله، إما الصورة المخلوقة المملوكة -كما يقوله من يقر بالرب المتميز [ ص: 578 ] عن العالم- وإما أن يجعلوا نفس العالم هو صورة الله ووجوده، لا حقيقة له وراء ذلك، كما يزعمه "خلق الاتحادية، مثل صاحب (الفصوص) ومتبعيه فهذه ثلاثة تأويلات:
[ ص: 579 ] أحدها: أن يكون مدبرا مالكا لجنسه وغير جنسه، كما أن الرب مدبر للعالم فهو على صورة الملائكة.
الثاني: أن يكون على صورة العالم، لأنه نسخته ومختصره، والعالم هو صورة الله المخلوقة، أو المملوكة.
أو هو: صورته الذاتية النفسية.
[وقد] قدمنا في تأويل من حمل ذلك على الصفة والصورة المعنوية، أننا لا ننازع في ثبوت المعاني الصحيحة، مثل كون الإنسان له من الأسماء والصفات والأفعال ما قد حملوا الحديث عليه، وجعلوه بذلك فيه شبه [لأسماء] الحق وصفاته وأفعاله، ولا لنا حاجة بالمنازعة في دلالة الحديث على ذلك إما بطريق التضمن، وإما بطريق الاستلزام، [ ص: 580 ] بحيث يقال: إنه إذا ثبت أنه على [الصورة] الذاتية: فهو على الصورة الوصفية والاسمية والفعلية أولى وأحرى، أو يقال غير ذلك.
وإنما المقصود هنا إبطال كل تأويل فيه تحريف الكلم عن مواضعه، وإلحاد فيه، ورد لما قصد بالنص، فيرد ما كذبوا به من الحق، لا ما قصدوا به من الحق، فإن هذا شأن المحرفين لنصوص الصفات، إذا حملوا الحديث على ما هو ثابت في نفس الأمر لم ننازع [في] ذلك المعنى الصحيح، ولا في دلالة الحديث عليه، إذا احتمل ذلك، وقد لا نكون في هذا المقام ناظرين في دلالة الحديث عليه نفيا وإثباتا. ولكن ننازعهم في [ ص: 581 ] تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته، وهو ما أبطلوه وعطلوه وكذبوا [به] من الحق، فإن خطأ النظار فيما كذبوا به ونفوه أكثر من خطئهم فيما صدقوا به وعلموه.