«فصل: قال: ذهب أئمتنا إلى أن اليدين، والعينين والوجه، صفات ثابتة للرب، والسبيل إلى إثباتها السمع، دون قضية العقل» قال صاحبه «والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود» أبو القاسم النيسابوري، الأنصاري، شارح «الإرشاد» شيخ أبي الفتح الشهرستاني، صاحب «الملل والنحل» [ ص: 337 ] و«نهاية الإقدام» وغيرهما: «هذا ما قاله الإمام. واعلم أن قاله مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان، ثابتتان، زائدتان، على وجود الإله سبحانه ونحوه، عبد الله بن سعيد، ومال القاضي أبو بكر في «الهداية» إلى هذا المذهب».
قلت: هو قول القاضي في جميع كتبه «كالتمهيد» و«الإبانة» وغيرهما.
قال أبو القاسم النيسابوري: «وفي كلام الأستاذ أبي إسحاق، ما يدل على أن التثنية في اليدين، ترجع إلى اللفظ لا إلى الصفة، وهو مذهب أبي العباس القلانسي، قال الأستاذ: أما العينان فعبارة عن البصر، وكان في العقل ما يدل عليه، وأما اليد والوجه، فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما، قال قائلون: قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين، يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق، وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام، لكنه لم يكن في العقل دليل على تسميته، فورد الشرع ببيانها، يسمي الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق [ ص: 338 ] يدا، والصفة التي يقع التقريب في التكليم وجها، وقالوا: لما صح في العقل، التفضيل في الخلق والفعل بالمباشرة، والإكرام، والتقريب بالإقبال، وجب إثبات صفة له سبحانه، يصح بها ما قلناه من غير مباشرة ولا محاذاة، فورد الشرع بتسمية إحداهما يدا، والأخرى وجها، ومن سلك هذه الطريق، قال: لم يكن في العقل جواز ورود السمع بأكثر منه، وما زاد عليه من جهة الأخبار، فطريقة الآحاد التي لا توجب العلم، ولا يجوز بمثلها إثبات صفة القدم، وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم، كان متأولا على الفعل».
قال: «وقال آخرون: طريق إثباتها السمع المحض، ولم يكن للعقول فيه تأثير، فإذا قيل لهم: لو جاز ورود السمع، بإثبات صفات لا يدل العقل عليها، لم يأمن أن يكون لله صفات، لم يرد الشرع بها، ولا صارت معلومة، ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله تعالى; إذ لم تكن واحدة منها شبيهة بصفته. كان جوابهم أن يقولوا: لما أخبر الله المؤمنين بصفاته الكاملة له، حكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها، لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها، لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنا يستحق المدح، إذا [ ص: 339 ] لم يكن عارفا بالله معنى وبصفاته أجمع، فلما وصفهم بالإيمان، عند معرفتهم لما ورد من الشرع، ثبت أنه لا صفة أكثر مما بين الطريق إليه بالعقل والشرع. قال الأستاذ أبو إسحاق: والتعويل على الجواب الأول، فإن فيه الكشف عن المعنى.
قال أبو المعالي: «فمن أثبت هذه الصفات السمعية، وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75] » وذكر أنهم قرروا ذلك بتخصيص آدم بالخلق، وبأنه ثنى اللفظ، وكلاهما يمنع من حمله على القدرة، وتكلم على ذلك إلى أن قال: «والذي يحقق ما قلناه، أن الذي ذكره شيخنا أبو الحسن والقاضي، ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين، على ما عداهما من الصفات، ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية، لا يدل مقتضى العقل عليها، وإنما يتوصل إليها سمعا، فبشرط أن يكون السمع مقطوعا به، وليس فيما استدل به الأصحاب قطع، والظواهر المحتملة لا توجب العلم، وأجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع، وليس في اليدين، على ما قاله شيخنا، نص لا يحتمل التأويل، ولا إجماع، وإنما في [ ص: 340 ] ذلك أدلة عقلية، فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه؛ يعني القدرة، والظاهر من لفظ "يدين"، حملهما على جارحتين، فإن استحال حملهما على ذلك، ومنع من حملهما على القدرة، أو النعمة، أو الملك، فالقول بأنها محمولة على صفتين، قديمتين لله، زائدتين على ما عداهما من الصفات، تحكم محض».
قال أبو المعالي: «وأما العينان، والوجه، فقد اختلف جواب شيخنا أبي الحسن في ذلك، فقال مرة: هما صفتان على نحو ما قال في اليدين، وقال مرة: العينان محمولتان على البصر، وهذا أظهر قوليه. وعليه حمل الأعين، في قوله: تجري بأعيننا [القمر: 14] أي: تجري السفينة; بمرأى منا، وقيل: بحفظنا، وحمل الوجه على وجود الباري، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ويبقى وجه ربك [الرحمن: 27] والباقي بعد فناء الخلق هو الله. قال أبو المعالي: وهذا هو الصحيح من جوابيه عندنا، وإنما اختلف جوابه، من حيث كان التعليق بالظاهر في اليدين أظهر».
قال أبو القاسم النيسابوري: «وقول أبي الحسن: في أن الوجه صفة زائدة، على الوجود أظهر، وقوله في العينين: أن المراد بذلك البصر أظهر.
قال أبو المعالي: «ومن سوغ من أصحابنا إثبات الصفات [ ص: 341 ] بظواهر هذه الآيات، ألزمه بثبوت كلامه أن يجعل الاستواء، والنزول والجنب من الصفات، تمسكا بالظاهر، وإن لم يبعد تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضا طريق التأويل، فيما ذكرناه» قال أبو القاسم: «هذا ما قاله الإمام».
وقد رأيت في بعض كتب الأستاذ أبي إسحاق قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع، الاستواء على العرش، والمجيء يوم القيامة، بقوله: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] وقوله: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22] ومما ثبت بالأخبار الصحيحة «النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة» وقوله: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» .. الحديث. قال: وأجمع أهل النقل، على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه، كان موجبا للعمل وقبولا في مسائل القطع. هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب». «ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا»
قال أبو القاسم: أبي إسحاق، أنه اعتقد أن النزول والمجيء والإتيان من صفات ذات الإله [ ص: 342 ] سبحانه; فإنه سبحانه لا يوصف بهذه الأوصاف في أزله، ويستحيل قيام حادث بذاته. فما حكيناه عنه أنه قال: ومما يثبت في الصفات بالسمع كذا، وكذا. فيحتمل أنه أراد بذلك صفات الأفعال، ويحتمل أنه أراد به الصفات الخبرية، التي لا بيان لها أكثر مما ورد به الخبر». «ولا نظن بالأستاذ
قال: «وقال الأستاذ من أصحابنا من قال: الاستواء وصف خبري، لا مجال للعقل فيه، وكذلك الفوقية، والواجب أن يتوقف في ذلك إلى أن يرد بمعناه خبر، قال: وهذا مذهب أئمة السلف، وقد روي عن أبو بكر -يعني ابن فورك-: أنها قالت: أم سلمة وهذا قول الاستواء ثابت بلا كيف، مالك بن أنس، وغيرهما من الأئمة، وحكى شيخنا [ ص: 343 ] والأوزاعي، قولين لأصحابنا في الاستواء أحدهما: أنه من صفات الذات. والثاني: أنه من صفات الأفعال. فمن صار إلى أنه من صفات الذات اختلفوا فيه، فصار الأكثرون منهم، إلى أن الاستواء على العرش، هو العلو عليه من جهة القهر، والغلبة، والانفراد بنعوت الجلال، وهذا المعنى وإن كان مدركا بالعقل ولكن تسميته بالاستواء مستقاة من الخبر. قال أبو الحسن من قال: الاستواء صفة الذات. فإنه سمى الله به، حين خلق العرش، لأجل أن الاستواء يقتضي تقريبه إليه ليستوي عليه، ولم يكن في الأزل غير الله، فلم تكن تسميته به. قال: وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: ويمكن أن يقال: لم يزل كانت له صفة الاستواء مطلقا، بمعنى أنه على صفة يصح بها الاستواء على العرش إذا خلقه، كما يقول لم يزل الله قادرا، وإن كان تعلق القدرة بالأحداث، يختص بحال الحدوث، وصار آخرون إلى أن الاستواء صفة خبرية يتوقف معناها إلى أن يرد خبر ببيانها». [ ص: 344 ] قلت: ما نقله من لفظ أبو الحسن: فمعروف، وما فسره. الأشعري
قال: «وقال الإمام -يعني أبا المعالي- وكنا على الإضراب عن الكلام على الظواهر، فإذا عرض فنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة، وقد صرح بالاسترواح إليها المجسمة وأصحاب الظواهر» قال: «وأجمع المسلمون، على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل، لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع. قال: وأجمع المحققون، على أن الظواهر يصح تخصيصها، أو تركها بما لا يقطع به، من أخبار الآحاد والأقيسة، وما يترك مما لا يقطع به، كيف يقطع به؟».