وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [المائدة: 35]، وقال تعالى: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [سبإ: 37]، وقال تعالى: والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [الواقعة: 10-12]، وقال: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم [الواقعة: 88-89] وقال: ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون [المطففين: 27-28].
فوصف خير الأصناف الثلاثة من عباده بأنهم المقربون.
[ ص: 55 ] وقال تعالى في موسى: وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [مريم: 52]، وقال في داود وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ص: 25]، والزلفى هو: القرب.
وفي الأثر المحفوظ عن عن مجاهد، عبيد بن عمير قال: "يدنيه حتى يمس بعضه". رواه حماد بن [ ص: 56 ] سلمة، والثوري، عن وسفيان بن عيينة، عن ابن أبي [ ص: 57 ] نجيح، مجاهد.
وقال في أم المسيح: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين [آل عمران: 45].
وقال في الملائكة: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا [النساء: 172].
وهذا أمر مستقر في الفطر، حتى المشركين الذين يعبدون الأوثان أخبر الله عنهم بقوله تعالى: والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3].
والله لم ينكر على المشركين طلب التقرب إلى الله تعالى، وإنما أنكر عليهم أنهم اتخذوا أولياء من دونه، يتقربون [ ص: 58 ] بعبادتهم إليه، وهو تعالى لم يشرع ذلك، ولم يأمر به، بل إنما يتقرب إليه بعبادته وحده لا شريك له.
فأما قوله: "فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود".
فيقال له: المعلوم بالضرورة أن جسد الإنسان لا يرتفع في السجود إلى فوق، وليس قربه مجرد قرب جسده، كما أن تقارب بني آدم وتباعدهم ليس بمجرد قرب الجسد وبعده، بل كما قال قائلهم:
وإن كانت الأجساد منا تباعدت فإن المدى بين القلوب قريب
وذلك أن قلوب بني آدم وأرواحهم لها قرب وبعد، وحركة وصعود، وهبوط ومكانة، كما أن الجسد له كذلك، والناس يحس أحدهم بقرب قلب بعض الناس من قلبه وبعده منه.
فالساجد إذا سجد يتقرب قلبه وروحه إلى الله تعالى نفسه، وكذلك الأعمال الصالحة جميعها التي يتقرب بها إلى [ ص: 59 ] الله تقرب بها روحه وقلبه إلى الله نفسه، فإذا كان في الدار الآخرة (قرب جسده –أيضا- مع قلبه، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وظهر في الدار الآخرة) ما كان باطنا في الدنيا.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".