وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا
قال : أفضل الجهاد عمر بن عبد العزيز وقال جهاد الهوى أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعا قال ومن المحقرات تنتج الموبقات ، ويقولون إن سفيان الثوري لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت : هشام بن عبد الملكإذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقال
قال لو قال إلى كل ما فيه عليك مقال كان أبلغ وأحسن وما قال ابن عبد البر متوجه . ابن عبد البر
وقال بعض الحكماء . إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي ، والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه وقال بعضهم اعص النساء وهواك واصنع ما شئت قال لو قال اعص الهوى لاكتفى وصدق ابن عبد البر وكان أوجز قيل ابن عبد البر للمهلب بم ظفرت قال بطاعة الحزم وعصيان الهوى .
قالوا ما ذكر الله تعالى الهوى في شيء من القرآن إلا ذمه وقال بزرجمهر الهوى غالب ، والقلب معلق به ، وقد امتدح بترك الهوى جماعة من الحكماء .
وقال الزبير بن عبد المطلب :
وأجتنب الكبائر حيث كانت وأترك ما هويت لما خشيت
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
أو وللشافعي لسهل الوراق :
إذا حار وهمك في معنيين وأعياك حيث الهوى والصواب
فدع ما هويت فإن الهوى يقود النفوس إلى ما يعاب
قال نفطويه إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها ، وكذلك نفسك لا تريك عيوب نفسك في هواها . فهذه نبذة يسيرة تتعلق بالهوى . [ ص: 133 ]
وللحكماء كجالينوس وغيره في العشق كلام اختصرته . وسئل بعض الحكماء عنه فقال شغل قلب فارغ وقال بعضهم بطن فرق ، وظهر فكثف ، وامتنع وصفه على اللسان ، فهو بين السحر ، والجنون ، لطيف المسلك ، والكمون .
وجد في صحيفة لبعض أهل الهند : العشق ارتياح جعل في الروح ، وهو معنى تنتجه النجوم بمطارح شعاعها ، وتولده الطبائع بوصله أشكالها ، وتقبله النفوس بلطف خواطرها ، وهو يعد جلاء للقلوب ، وصيقلا للأذهان ، ما لم يفرط ، فإذا أفرط عاد سقما قاتلا ، ومرضا منهكا ، لا تنفذ فيه الآراء ، ولا تنجع فيه الحيل ، العلاج منه زيادة فيه .
حضر عند يوما المأمون يحيى بن أكثم القاضي وثمامة بن أشرس فقال المأمون ليحيى خبرني عن حد العشق ؟ فقال يا أمير المؤمنين سوانح تسنح للعاشق يؤثرها ويهتم بها تسمى عشقا . فقال ثمامة اسكت يا يحيى فإنما عليك أن تجيب في مسألة الفقه وهذه صناعتنا . فقال : أجب يا المأمون ثمامة . فقال يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواهر النفوس بوصل المشاكلة أثبتت لمح نور ساطع تستضيء به نواظر العقل فتهتز لإشراقه طبائع ويتصور من ذلك نور خاطر بالنفس متصل بجوهرها فيسمى عشقا قال عباس بن الأحنف فيما أنشده إسحاق الموصلي :
فلو كان لي قلبان عشت بواحد وخليت قلبا في هواك يعذب
ولكنما أحيا بقلب مروع فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرب
تعلمت ألوان الرضى خوف سخطها وعلمها حبي لها كيف تغضب
ولي ألف وجه قد عرفت مكانه ولكن بلا قلب إلى أين يذهب
أرى الطريق قريبا حين أسلكه إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف
يقرب الشوق دارا وهي نازحة من عالج الشوق لم يستبعد الدارا
وقال آخر :
فلو أن شرق الشمس بيني وبينها وأهلي وراء الشمس حيث تغيب
لحاولت قطع الأرض بيني وبينها وقال الهوى لي إنه لقريب
قال أعرابي من فزارة عشقت امرأة من طيئ فكانت تظهر لي مودة فوالله ما جرى بيني وبينها شيء من ريبة غير أني رأيت بياض كفها فوضعت كفي على كفها فقالت : مه لا تفسد ما صلح . فارفضضت عرقا من قولها فما عدت لذلك وقال بعضهم الرجل يكتم بغض المرأة أربعين يوما ولا يمكنه أن يكتم حبها يوما والمرأة تكتم حب الرجل أربعين يوما ولا يمكنها أن تكتم بغضه يوما واحدا .
قال علي بن الجهم :
يا سائلي ما الهوى اسمع إلى صفتي الحب أعظم من وصفي ومقداري
ماء المدامع نار الشوق تحدره فهل سمعت بماء فاض من نار
أسر الذي بي والدموع تبوح وجسمي سقيم والفؤاد جريح
وبين ضلوعي لوعة لم أزل بها أذوب اشتياقا والفؤاد صحيح
وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها للمطمئن وعقلة المستوفز
وقال حميد بن ثور :
منعمة لو يصبح الذر ساريا على جلدها صبت مدارجها دما
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدودا
كأن منثور رمان بوجنتها لو دب فيها خيال الذر لانجرحا
رق فلو دب به ذرة منعلة أرجلها بالحرير
لأثرت فيه كما أثرت مدامة في العارض المستدير
لسانك ياقوت وثغرك لؤلؤ وريقك شهد والنسيم عبير
فما لك في الدنيا عن الناس مشبه ولا لك في حور الجنان نظير
قال نظر ابن عبد البر إلى امرأة حسناء ترمي الجمار وتطوف بالبيت وقد شغلت الناس بالنظر إليها لبداعة حسنها فقال لها أمة الله خمري وجهك فقد فتنت الناس وهذا موضوع رغبة ورهبة ، فقالت له إحرامي في وجهي أصلحك الله يا أبو حازم وأنا من اللواتي قال فيهن أبا حازم العرجي :
من اللاء لم يحججن يبغين جنة ولكن ليقتلن التقي المغفلا
وذكر المدائني عن عبد الله بن عمر العمري قال : خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام أرفست فيه يقال أرفس في كلامه زوره وزخرفه قال : فأدنيت ناقتي منها وقلت يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله ؟ فسفرت عن وجه بهر الشمس حسنا ، فقالت تأمل يا عمري فإني ممن عناه العرجي بقوله :
أماطت كساء الحج عن حر وجهها وأبدت على الخدين وردا مهللا
من اللاء لم يحججن يبغين جنة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وترمي بعينيها القلوب ولحظها إذا ما رمت لم تخط منهن مقتلا
وجه يدل الناظرين عليه في الليل البهيم
فكأنه روح الحياة تهب مسك نسيم
في خده ورد الحياء يعل بالماء النعيم
سقم الصحيح المستقل وصحة الرجل السقيم
نظر رجلان إلى جارية حسناء في بعض طرق مكة فمالا إليها واستسقياها فسقتهما فجعلا يشربانه ولا يسيغانه فعرفت ما بهما فجعلت تقول :
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
دخل الشعبي على . فقال يا عبد الملك بن مروان شعبي بلغني أن اختصم إليك رجل وامرأة فقضيت للمرأة على زوجها فقال فيك شعرا فأخبرني بقصتهما وأنشدني الشعر إن كنت سمعته ، فقال يا أمير المؤمنين لا تسألني عن ذلك ، فقال عزمت عليك لتخبرني قال نعم اختصمت إلي امرأة وبعلها فقضيت للمرأة إذ توجه القضاء لها فقام بعلها أو الرجل وهو يقول :
فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها
بفتاة حين قامت رفعت مالتيها
ومشت مشيا رويدا ثم هزت منكبيها
فتنته بقوام وبخطي حاجبيها
وبنان كالدراري وسوادي مقلتيها
قال للزوج قرب ها وأحضر شاهديها
فقضى جورا علينا ثم لم يقض عليها
كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها
لصبا حتى تراه ساجدا بين يديها
بنت عيسى بن جراد ظلم الخصم لديها
قال إسحاق بن إبراهيم :
إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه لا حظ لي فيه إلا لذة النظر
النظر إلى الوجه الحسن وإلى الخضرة ، وإلى الماء ، والنظر في المصحف . دخل الشعبي سوق الرقيق فقيل له : هل من حاجة ؟ فقال : حاجتي صورة حسنة يتنعم بها طرفي ، ويلتذ بها قلبي ، وتعينني على عبادة ربي [ ص: 138 ] قال ينبغي للوجه الحسن أن لا يشين وجهه بقبح فعله ، وينبغي لقبيح الوجه أن لا يجمع بين قبيحين قال الشاعر : الحسن البصري
إن حسن الوجه يحتاج إلى حسن الفعال
حاجة الصادي من الماء إلى العذب الزلال
بعث إلى عبد الملك بن مروان اليمن عسكرا فأقاموا سنين فقالت امرأة : يزيد بن سنان
تطاول هذا الليل فالعين تدمع وأرقني حزن بقلبي موجع
فبت أقاسي الليل أرعى نجومه وبات فؤادي هائما يتفزع
إذا غاب منها كوكب في مغيبه لمحت بعيني آخرا حين يطلع
إذا ما تذكرت الذي كان بيننا وجدت فؤادي للهوى يتقطع
وكل حبيب ذاكر لحبيبه يرجي لقاه كل يوم ويطمع
فذا العرش فرج ما ترى من صبابتي فأنت الذي ترعى أموري وتسمع
دعوتك في السراء والضر دعوة على علة بين الشراسيف تلذع